مؤسسات تشهد اكتظاظا شديدا وغيابا للقوانين والإصلاح والخدمات

سجون لبنان مصنع للمجرمين والمنحرفين

تعرف السجون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بانعدام القانون وغياب شروط الصحة ونقص الخدمات، حتى أصبحت مؤسسة عقابية وليست إصلاحية تعنى بإعادة تأهيل المساجين للحياة الاجتماعية، والسجون اللبنانية ليست استثناء، فقد كشف تفشي فايروس كورونا الحالة المزرية لهذه المؤسسات التي أصبحت مكانا لتخريج المجرمين والمنحرفين.

مكدسون في العنابر

بيروت

تضيق سجون لبنان بنزلائها، وتنحصر وظيفتها في العقاب فيما يجب أن تشمل الإصلاح وإعادة التأهيل، فتخرّج مجرمين بدل ردع المنحرفين وإصلاحهم.

وزاد تفشي وباء كورونا في أغلب السجون اللبنانية من تأزم وضع المساجين الذين يعانون من الاكتظاظ وقلة التهوئة وتفشي الأمراض الجلدية والصدرية.

ولا شك أن استخدام السجن كعقوبة مباشرة تفرضـها المحاكم، كان قد بدأ في القرن الثامن عشر في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، وانتشر تدريجيا بعد ذلك ليعم معظم بلدان العالم ومن بينها لبنان.

ولكن استخدام السجون ينبغي ألا يقتصر على معاقبة المتهمين، بل يجب أن يشمل أيضا ردعهم عن ارتكاب جرائم أخرى بعد إطلاق سراحهم، وإصلاحهم أو إعادة تأهيلهم، فيما وظيفة السجون في لبنان لا ترقى إلى مستوى الإصلاح.

سجون مكتظة

وتوجد في لبنان 25 سجنا، بينها 19 للرجال و4 للنساء، وسجن للأحداث وآخر للقاصرات، تعاني جميعها من مسألة الاكتظاظ الشديد، وبطء المحاكمات، كما تعاني من خلط المساجين وعدم تصنيفهم، وغياب العناية الصحية المناسبة، والافتقار إلى بيئة مواتية للصحة الشخصية والعامة، وندرة النشاطات التربوية والاجتماعية والاقتصادية، وصعوبة إجراء الزيارات.

وقالت صباح الحسيني المتخصصة في مجال الأنثروبولوجيا والباحثة في مجال السجون، “إن واقع السجون في لبنان من سيء إلى أسوأ من النواحي الصحية والبنى التحتية والأبنية غير الصالحة للاستخدام”.

وأضافت “هناك أيضا مشكلة الاكتظاظ، إضافة إلى ارتفاع عدد الموقوفين من غير المحكومين نسبة إلى عدد الموقوفين الذين صدرت بحقهم أحكام، حيث قد يقضي بعض الموقوفين سنوات في السجن لتتبين براءتهم بعد صدور الأحكام”.

وتابعت الحسيني “لا يوجد إصلاح داخل السجون في لبنان، ومن يدخل السجن يخرج منه أكثر انحرافا، بسبب الاختلاط بين المجرمين ومرتكبي الجنح، ما يؤدي إلى اكتساب السجين معرفة بكل أنواع الجرائم والجنح. وغالبية السجناء يعودون إلى السجن بعد إطلاق سراحهم”.

وأشارت إلى أن “السجون تعاني من نقص في عدد قوى الأمن، ونقص في الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين، وشح في الأموال المخصصة لتأهيلها، حيث يقوم السجناء في غالب الأحيان بتجهيز السجون من أموالهم الخاصة”. وتشكو السجون عموما في لبنان من نقص في الخدمات الأساسية وشروط النظافة، ما جعل المساجين عرضة للأمراض الجلدية والأوبئة.

ولا شك أن أزمة اكتظاظ السجون في لبنان هي أزمة معمّرة، ولكنها أصبحت اليوم أكثر خطورة في ظل انتشار جائحة كورونا، حيث أصيب 798 سجينا بفايروس كورونا شفي منهم 679 سجينا. ولم تبادر الحكومات المتعاقبة منذ سنوات إلى اتباع خطط لتخفيف هذا الاكتظاظ.

وقال السجين علي فاضل من سجن رومية (مبنى الأحداث) “نحن نعاني من الاكتظاظ ويوجد في سجن رومية حوالي 3000 سجين بينما يتسع لـ1500 سجين، وفي الغرفة التي تتسع لـ30 شخصا يتم وضع 80 أو 90 شخصا، وبسبب الاكتظاظ ينام ثلاثة أشخاص على فراشين، فكيف نحمي أنفسنا من جائحة كورونا؟ وكيف نتباعد؟ نحن في خطر وقد توفي شخص قبل أيام بسبب الفايروس”.

وحذر نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف في وقت سابق من قنبلة موقوتة داخل سجن رومية، أكبر السجون اللبنانية وأكثرها اكتظاظا بعد تسجيل أولى الإصابات بفايروس كورونا المستجد.

وقال خلف إن “الفايروس داخل سجن رومية أشبه بقنبلة إنسانية لا أحد يستطيع أن يحملها”، في وقت يؤوي فيه السجن نحو أربعة آلاف سجين، أي أكثر بنحو ثلاث مرات من قدرته الاستيعابية.

وأظهر شريط فيديو مسرّب من السجن وتم تداوله على نطاق واسع ممرا ضيقا ينام فيه عدد من السجناء من دون مراعاة أي تباعد اجتماعي. وفي غرفة ضيقة ينام سبعة سجناء على الأقل على فرش على الأرض قرب بعضهم البعض.

ويسجّل عداد الإصابات بكورونا ارتفاعا كبيرا خلال الأسابيع الأخيرة في لبنان، ما يثير خشية من قدرة المنظومة الصحية على الاستمرار في الاستجابة واستيعاب المصابين. ودعا نقيب الأطباء في لبنان شرف أبوشرف إلى تسريع المحاكمات لتخفيف عدد السجناء مع تفشي الوباء.

وأوضحت المحامية والناشطة الحقوقية ديالا حيدر أن السجون اللبنانية تشهد أزمة حتى قبل انتشار كورونا، فاكتظاظها وتأخر صدور الأحكام بحق أشخاص، بعضهم قضى في السجن ما يوازي فترة حكمه أو ربما أكثر، يطرحان مشكلة حقيقية.

طائفية وغياب الحقوق

قالت الحسيني إن “السجون في لبنان مقسمة طائفيا ومناطقيا، وكل مجموعة طائفية أو مناطقية تعزل نفسها عن المجموعات الأخرى داخل السجن، بما تيسر من ‘كراتين أو أغطية’ وتمارس عاداتها الخاصة. كما يتم تعيين آمري السجون طائفيا بما يتناسب مع تركيبة النظام الطائفي في لبنان”.

وأضافت “نادرا ما يمارس القضاة مهمة الإشراف القضائي داخل السجون، إلا في حالات الإضراب عن الطعام أو محاولات الانتحار، كما يوجد نقص في المعونة القضائية، التي تتمثل في تبييض السجل العدلي للمساجين الذين يتم إطلاق سراحهم، وتعيين محام لكل سجين في حال عدم توفره”.

واعتبرت أن “تفعيل المعونة القضائية، واستقلالية القضاء والابتعاد عن المحسوبيات والطائفية، وتحديث القوانين الخاصة بالسجون، وتسريع المحاكمات، وبناء سجون مركزية في المناطق، وخصخصة السجون، وتمويلها لتحسين أوضاعها، من شأنها المساهمة في حل أزمة السجون”.

وأفادت بأن “إنشاء مصانع للتعليم المهني، ونقل الإشراف على السجون من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل ووزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع وزارة التعليم العالي ووزارة الصحة، ومراقبة الجمعيات العاملة في السجون، من شأنها أيضا أن تساهم في حلّ أزمة السجون”.

وتتشكل غالبية الموجودين في السجون في عدد من البلدان، من الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمـات. وفي لبنان يوجد 53 في المئة من الموقوفين المحكومين و47 في المئة من الموقوفين غير المحكومين، بحيث تصدر أحكام بعض هؤلاء ويتبين أنهم قضوا في السجن فترة أطول بكثير من الحكم الصادر بحقهم.

ويحرم السجناء في السجون اللبنانية من أبسط حقوق الإنسان، ويتعرضون لسوء المعاملة، بالرغم من أن حظر التعذيب يشكل جزءا من القانون الدولي العرفي، الذي يقضي بمعاملة المسجونين والمحتجزين بطريقة إنسانية وكريمة في كل وقت.

وتقضي قواعد السلوك الخاصة بعناصر قوى الأمن الداخلي في لبنان بأن يلتزم عنصر قوى الأمن بالعدل والإنصاف مع الجميع أثناء تنفيذ القانون. وعليه أن يمتنع عن القيام بأي عمل من أعمال التعذيب، أو المعاملة القاسية، أو اللا إنسانية، أو المهينة أو التحريض على ذلك أو التغاضي عنه أثناء إجراء التحقيقات أو أثناء تنفيذ المهام الموكلة إليه، ولكن واقع ما يجري يخالف قواعد السلوك تلك.

إصلاح وتأهيل

قال المحامي هشام الخوري حنا “إن هدف السجن هو الردع والزجر والإصلاح، وبدل أن يتم تأهيل السجين للانطلاق من جديد في المجتمع، نجد الأمراض النفسية تتفشى بين المساجين في السجون اللبنانية بسبب سوء معاملتهم باستخدام الضرب والابتزاز والحرمان من الطعام ومن مشاهدة ذويهم أو لقاء المحامين، وهذا مخالف للقوانين ولحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية التي وقع عليها لبنان”.

وتابع الخوري حنا “لا تتوفر في السجون المواصفات العالمية بغياب النظافة، وكذلك بالنسبة للوضع الصحي وعدم توفر وسائل الوقاية في ظل جائحة كورونا”.

ووصف وضع السجون في لبنان بـ”المأساوي من ناحية الاكتظاظ حيث يفوق عدد المساجين قدرة السجون على استيعابها. وتتراوح أعداد المساجين في السجون التابعة لوزارة العدل ما بين 7 و8 آلاف سجين بينما لا تتسع هذه السجون لأكثر من 5 آلاف”.

ورأى أن إقرار “قانون العفو العام يمكن أن يخفف من أزمة الاكتظاظ في السجون، ولكن الانطلاق من البعد الطائفي للمطالبة بإقرار هذا القانون أدى حتى الآن إلى بلبلة بين الكتل النيابية، وتسبب في عدم إقراره في ظل تضارب مصالح الطوائف ورغبة كل منها بتفصيل هذا القانون على قياس أبناء الطائفة”.

وكشف الخوري حنا عن “تفشي تجارة المخدرات في السجون، وهي عصية على المكافحة”. مضيفا أن “معظم السجناء يكررون ارتكاب الجرائم بعد خروجهم من السجن”. وأضاف “يجب أن تتوفر الأندية والمكتبات في السجون، ووسائل التواصل مع العالم الخارجي، وكذلك المعاهد التي توفر للمساجين تعلم المهن”.

ورأى أن السجون “تحتاج إلى ميزانيات خاصة من قبل الدولة لتأهيلها وتأمين وسائل الوقاية اللازمة فيها، واتباع سياسات إصلاحية وإيلائها الاهتمام اللازم”.

وأضاف السجين علي فاضل “لا توجد أي برامج إصلاحية في السجن، ومن يدخل إلى السجن بسبب تدخين سيجارة حشيشة يخرج منه تاجر مخدرات، فالسجن في لبنان هو لتعليم الإجرام وليس للإصلاح”. وعن كيفية التحقيق أوضح فاضل أنه “يتم استخدام الضرب والتعذيب والإهانات والذل مع الموقوفين خلال التحقيق معهم”.

وأعلن عن وجود “مجاعة في السجن، ومنذ ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة تم حرمان المساجين من أكل اللحوم والدجاج، ونحن اليوم نحصل على ثلث الوجبات التي كنا نحصل عليها سابقا”.

وتابع فاضل “في السجن مرضى بحاجة إلى غسيل كلى وكبار في السن يعانون من أمراض مزمنة، وهم لا يحصلون على الرعاية الطبية اللازمة“.

وعن المحاكمات عن بعد التي اعتمدت بعد تفشي فايروس كورونا أوضح فاضل أن “مثل هذه الجلسات تتم عبر السكايب مع قضاة التحقيق ولكن خدمة الإنترنت غير متوفرة في معظم الأحيان في السجن” مشيرا إلى أن “مشكلة المساجين هي مع القضاء وبطء سير المحاكمات، أما الحل فهو بإقرار قانون العفو العام”.

وبالرغم من اعتماد لبنان سياسات تعمل على تطوير إدارة السجون ووضع المساجين، من بينها إنشاء لجنة لمكافحة التعذيب ضمن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، وعقد اتفاقيات مع عدد من الخبراء والهيئات الدولية المتخصصة لتطوير خطط وسياسات خاصة بتحسين وضع السجون وإدارتها، فإن معاناة المساجين تبقى في لبنان كبيرة، تعبر عنها بين الحين والآخر اعتصامات وأعمال شغب وفرار، وتشطيب للجسد بواسطة الأدوات الحادة.

ويأمل اللبنانيون في أن تحظى السجون باهتمام المسؤولين المعنيين ويتم اعتبارها من الأولويات، من خلال وضع الخطط والسياسات التشريعية والقضائية والإدارية والمالية لإصلاحها ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان فيها.