صوت من السجل الفرنسي يقدم تصورا لمستقبل أوروبا

يغرد خارج السرب
يعرف الصحافيون أن المؤلفين الذين لديهم كتاب للبيع غالبا ما يقدمون أفضل المقولات، وهذا يفسر جزئيا عودة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي إلى الظهور في الأخبار مؤخرا، حيث أثارت مقابلة أجراها للترويج لكتابه عاصفة كبيرة بسبب حديثه الذي بدا وكأنه يُساند روسيا.
وقال الرئيس الذي قاد فرنسا لولاية واحدة إن روسيا جارة لأوروبا و”نحن في حاجة إليهم وهم في حاجة إلينا”، وعن غزو أوكرانيا، قال إن أوروبا في حاجة إلى إستراتيجية أوضح، ولكن يجب أن تظل أوكرانيا في نهاية المطاف محايدة وألا يتم قبولها في حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي.
وكانت أكثر تصريحاته إثارة للجدل حول شبه جزيرة القرم، وهي أرض أوكرانية ضمتها روسيا في عام 2014، حيث قال “إن إعادة تلك الأراضي هو هدف وهمي بعكس ما يرى من يحارب لاستعادتها”.
ويُعد ساركوزي واحد من بعض الأصوات في مختلف أنحاء العالم الغربي الذي خالف الإجماع حول كيف قد ينتهي غزو أوكرانيا، وقد ضجت تلك الأصوات مع هدوء الهجوم الأوكراني، والسبب هو أن رؤية الغرب للكيفية التي قد تنتهي بها هذه الحرب لم تكن أبدا هشة إلى هذا الحد.
ومع دنو شتاء السنة الثانية من الحرب، والعلم أن سياسة أوكرانيا ستكون عنصرا أساسيا في الانتخابات الأوروبية والأميركية في العام المقبل، بدأ التعب، بل وحتى الاستياء يظهر على ملامح الغرب، والواقع أن المقترحات غير العادية التي طرحتها أصوات مثل ساركوزي كانت تعبيرا عن حالة عدم اليقين تلك، وهي بحث ليس عن سبيل للمضي قدما، بقدر ما هو بحث عن مخرج من تلك الحرب.
واقترح ستيان جنسن، مدير المكتب الخاص للأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ قبل أيام من مقابلة ساركوزي، أن تتخلى أوكرانيا عن الأراضي لروسيا في مقابل الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
وفي الولايات المتحدة اتخذ المنافس الجمهوري غير المعروف فيفيك راماسوامي موقفا متشددا من أوكرانيا في أول مناظرة تلفزيونية قائلا إنه سينهي المساعدات المالية للبلاد، وردد ما قاله ساركوزي في قوله إنه سيمنع دخول أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي ويقايض الأراضي الأوكرانية بالسلام مع روسيا.
وفي الولايات المتحدة اتخذ المنافس الجمهوري غير المعروف فيفيك راماسوامي موقفا متشددا من أوكرانيا في أول مناظرة تلفزيونية قائلا إنه سينهي المساعدات المالية للبلاد، وردد ما قاله ساركوزي في قوله إنه سيمنع دخول أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي ويقايض الأراضي الأوكرانية بالسلام مع روسيا.
وربما كان صوت فيفيك راماسوامي وحيدا على مسرح المناظرة، وهو أقلية بين السياسيين الجمهوريين الرئيسيين، لكن وجهات نظره لها قبول بين جمهور الرئيس السابق دونالد ترامب، المنجذب لذلك الرأي. وينطبق الشيء نفسه على ساركوزي، الذي لم يعد من صناع القرارات، على الرغم من أنه يتمتع بقدر كبير من النفوذ في الأوساط السياسية الفرنسية.
ورغم هذا فإن جزءا من الأسباب التي جعلت تعليقات ساركوزي تحظى بمثل ذلك الاهتمام هو أنها تتردد في ظل غياب أيّ سياسة.
وعلى الرغم من بعض التقارير المفرطة في الحماس في وسائل الإعلام حول سرعة تقدم أوكرانيا، إلا أن التقدم كان بطيئا، فالهجوم المضاد على وشك دخول شهره الرابع، مع عدم وجود تحول كبير في خطوط المعركة.
إن الموقف المبالغ المتمثل في استعادة الأراضي المحتلة في شرق البلاد وحتى شبه جزيرة القرم، سيستغرق سنوات عدة بناء على سرعة التقدم الحالي، وليس من الواضح ما إذا كان القادة الغربيون راغبين في خوض ذلك الصراع المطول، ناهيك عن رغبة شعوبهم.
ومع ذلك، فإن بنود العرض الأقل غير معروفة، وهذا سبب رئيسي وراء عدم إحراز تقدم دبلوماسي يذكر، فكيف سيبدو أصغر انتصار أوكراني يمكن تخيله؟ هل هو التخلي عن المناطق الشرقية؟ أم تجميد الصراع للأبد؟ وقد استبعد الرئيس الأوكراني مرارا وتكرارا هذين الخيارين.
وخلال العام الماضي، تجاهل القادة الغربيون تلك التفاصيل، على أمل أن تؤدي الانتصارات في ساحة المعركة إلى تغيير الحسابات السياسية، ولكن مع عدم توجيه ضربة حاسمة حتى الآن إلى روسيا بدأت العواصم الغربية تتساءل عما يخفي الغد، وتلوح عبارة “الصراع المجمد” في الأفق إلى جانب مسألة كيفية شرح ذلك للناخبين.
وفي العام المقبل، ستكون هناك ثلاث انتخابات رئيسية للمشتركين في حرب أوكرانيا، حيث ستجرى انتخابات أوروبية في شهر يونيو، وإذا كان الصراع الأوكراني لا يزال مجمدا أو يتقدم ببطء، واستمرت أزمة تكاليف المعيشة في القارة العجوز في الصعود، فبوسع مهندسي السياسة الحالية توقع الكثير من الضغوطات.
وكانت الانتخابات الأميركية في وقت لاحق من ذلك العام أكثر غموضا، حيث نادرا ما تتصدر السياسة الخارجية جدول أعمال الناخبين، ولكن المرشحين من الحزب الجمهوري يقومون بصياغة وجهات نظر جديدة بشأن أوكرانيا بناء على سياسة عدم التدخل، وفكرة أميركا أولا. وبغض النظر عن هوية من سيواجه جو بايدن في سباق الرئاسة، فإن وضع المصالح الأميركية أولا سيكون جزءا مهما من المحادثة، وسيكون من السهل توجيه سهام النقد نحو المبالغ الضخمة المقدمة لأوكرانيا.
ومن المثير للدهشة أن الانتخابات الرئاسية الروسية في شهر مارس القادم قد تكون هي الانتخابات التي لن تلعب فيها أوكرانيا دورا كبيرا، وطالما لم يكن هناك نصر لكييف قبل موعد الانتخابات، أو الحاجة إلى تعبئة جماهيرية لتجنيد الرجال الروس، فإن الانتخابات يمكن أن تقلل من حقيقة الحرب وتكرر الحديث عن محاربة موسكو لأعدائها.
لكن الانتخابات الروسية تعني أيضا أنه إذا لم يكن من الممكن حل الحرب بالقوة قبل ذلك، فلن يتم حلها عن طريق المفاوضات إلا بعد ذلك، لأنه لن يكون من مصلحة فلاديمير بوتين أن يكون هناك اتفاق تفاوضي على الطاولة في شهر مارس. فمن الأفضل أن تكون “في حوار” وتضع قضية أوكرانيا جانبا، أي إذا لم يكن هناك تغيير كبير في الحرب في الأسابيع القليلة المقبلة، فمن شبه المؤكد أنها ستستمر حتى فصل الربيع المقبل.
والواقع أن هذه الفكرة كانت وراء عودة الموقف “الواقعي”، الذي لا تشكل أفكار ساركوزي سوى جزء منه.
كان القادة الغربيون يأملون في إنهاء هذه الحرب في أوكرانيا منذ أشهر، وعندما يصبح إنهاء الحرب احتمالا غير وارد، قد يحدث تحول تدريجي: ستظهر فكرة أنه إذا لم يكن بالإمكان حل غزو أوكرانيا في ساحة المعركة الأوكرانية، فسيتعين حلها على المسرح السياسي الغربي.