الفرنسية ضيف ثقيل على تونس

يُخطئ التونسيون حين يتكلمون بالفرنسية فيما بينهم. إنهم يحطمون فضاءهم الوطني بأيديهم. اللغة العربية هي ذلك الفضاء.

لقد كنت أشعر بالأسى من أجلهم. فهم يرددون أشعار أبي القاسم الشابي مثلما يفعل الغرباء. ذلك لأنهم يتبعونها بكلمات غريبة.

يغلف البعض ذلك السلوك العبثي بالحاجة إلى الاتصال بالآخر ــ الفرنسي فيما هم في الحقيقة يستعملون لغة الآخر في التعبير عمّا يظنون أن لغتهم عاجزة عن حمله. وهو ظن ليس في محله.

هل هناك علاقة بين هذا السلوك غير المسؤول ومحاولة الأوروبيين فرض وصاية على تونس من خلال التدخل في الشؤون الداخلية الذي تقوم به بعض المنظمات الأوروبية حين تسعى لفرض أجندتها على الرئيس التونسي قيس سعيد؟

من وجهة نظري يمثل ذلك السلوك ثغرة إلى مناطق ضعيفة في الشخصية التونسية. فاللغة هي الأصل وهي تمثل مؤشرا على قوة الشخصية الوطنية.

يشعر الأوروبيون أن هناك فضاء لغويا متاحا لهم يتحركون فيه بيسر. وهو فضاء ليس متاحا في الدول المغاربية الأخرى، الجزائر والمغرب، بالرغم من أن شعبي البلدين يجيدون الفرنسية مثلما يجيدها التونسيون. وهناك من أبناء البلدين ممن احتل مكانا في الأكاديمية الفرنسية (آسيا جبار والطاهر بن جلون مثلا).

قبل سنوات دُعيت إلى ندوة عن الفن التشكيلي وفوجئت بأن عددا من المحاضرات والمحاضرين يلقون محاضراتهم بالفرنسية على جمهور كله من التونسيين ولم أفهم ومعي المدعوون العرب أيّ شيء مما قيل. وحين عبّرت عن دهشتي لم يعبّر منظمو الندوة عن شعور مّا بالأسف. كان ما جرى بالنسبة إليهم أمرا عاديا.

ذلك ما يعرفه الأوروبيون جيدا.

كان يعرف أنه حين جمّد عمل مجلس النواب ومن ثم ألغاه وحين دعا إلى دستور جديد فإنه سيُغضب دولا كانت ترغب في أن تقع تونس في مصيدة الإخوان لتكون مجرد ولاية إخوانية وليذهب شعبها إلى الجحيم

نقطة ضعف يمكن التسلل من خلالها بخفة ويسر ومن غير ضجيج كما لو أن الأوروبيين من أصحاب الدار. لذلك يمكن ألاّ يكون صادما الأسلوب الذي يستعمله الأوروبيون وهم يسعون لإعاقة إجراءات الرئيس التونسي من أجل تغيير الواقع السياسي والخروج من الفوضى التي صنعتها الأحزاب تحت غطاء ديمقراطية صار الغربيون يدافعون عنها باعتبارها عصا إنقاذ.

قد لا يعرف التونسيون أن الشعوب التي تخلّت عن لغتها أو فقدتها هي شعوب ليست سعيدة. فاللغة هي من أهم العناصر الحيوية للوجود. هي جوهر الاستقلال المعنوي. استقلال اللسان في التعبير عن سيادته.

ولو نظرنا إلى دول الاتحاد الأوروبي نلاحظ أن الشراكة شملت كل شيء إلا اللغة. كل شعب من شعوب القارة صار أكثر اعتزازا وتمسكا بلغته وأشد خوفا عليها. بحيث صدرت الكثير من القوانين الوطنية التي تمنع استعمال اللغات الأخرى في المواقع العامة.

ذلك درس لم يتعرف عليه التونسيون لذلك فإنهم لم يحذروا السقوط في فخ الوصاية اللغوية التي أعتقد أنها تشكل واحدا من مصادر تشجيع المنظمات الأوروبية ومن ورائها منظمات دولية على محاولة ممارسة الوصاية السياسية التي رفضها الرئيس سعيد بعد أن كان حريصا على تسميتها في رسالة مزدوجة إلى تلك المنظمات والشعب التونسي في الوقت نفسه.

يدرك سعيد أن بلاده وهي التي بادر شعبها إلى إسقاط النظام السياسي فاتحا الباب لرياح الربيع العربي كانت قد وُضعت تحت المجهر الذي يستعمله الغرب للانتقاص من سيادة الدول وفرض مشاريعه عليها. وهو لذلك يتعامل بحذر شديد مع ما كل ما تطرحه المنظمات الدولية والأوروبية من حلول للمشكلات المحلية.

فلا الديمقراطية وصفة جاهزة ولا الدستور يكتبه الغرباء.

وإذا ما كان الغربيون يحاربون تونس بديمقراطيتهم فإن الشعب التونسي لم يعد يطيق العيش وسط الفوضى التي نتجت عن تلك الديمقراطية التي أباحت للأحزاب أن تخطف الإرادة الشعبية وتستضعفها وتسخر منها بحيث يتحول مجلس النواب المنتخب من أجل تشريع القوانين ومراقبة عمل الحكومة إلى حلبة صراع وسيرك يتسابق فيه الحزبيون من أجل إظهار بذاءاتهم.

الرئيس التونسي بكل ما يملكه من خبرة دستورية يسعى اليوم لإعادة الحياة السياسية إلى موقعها الصحيح. كان يعرف أنه حين جمّد عمل مجلس النواب ومن ثم ألغاه وحين دعا إلى دستور جديد فإنه سيُغضب دولا كانت ترغب في أن تقع تونس في مصيدة الإخوان لتكون مجرد ولاية إخوانية وليذهب شعبها إلى الجحيم.

لقد آن لمثقفي تونس الذين يسخر بعضهم من التزام الرئيس التونسي بالتكلم بلسان عربي فصيح أن يدركوا حجم الخطر الذي تنطوي عليه كل إشارة تنبعث من الساحل الأوروبي.

الحذر اللغوي واجب في هذه المرحلة لكي لا ننزلق إلى استعمار جديد تكمن مقدمته هذه المرة في الإعجاب الأبله.

 

مقالات الكاتب