إحياء الدول البائدة

خلال الايام الماضية طالب عدد من أعضاء التيار الديني في الكويت بإبعاد أحد علماء الدين المعروفين، وذلك على خلفية مقاطع مجتزئة يتحدث فيها حول قضايا تاريخية وخلافية.  ولان الحدث ليس جديدا عليهم، إذ سبق ان لاحقت الجماعات المتشددة خطباء وعلماء دين وكتاب رأي ومغردين وطالبت بسجنهم او ابعادهم عن البلاد، بحجة الدفاع عن التاريخ وصيانة التراث من النقد، يصبح من المهم معالجة مدى مشروعية استجابة الدولة لضغوط التوجهات الدينية المتشددة، واين تتحرك الدولة واين تقف في هذا الجدل؟

من نافلة القول أن تضخم نظرة الإقصاء المذهبي أو الطائفي أو الديني أو السياسي ليس له مكان في الدول المعاصرة. اذ يسعى الفكر البشري لبناء الدولة والتقدم بها بالصورة التي تستوعب مختلف المكونات الثقافية والاثنية. وتتحرك الدول اليوم بوصفها النموذج الأرفع للتطور البشري، والمعبر المتفق عليه للمدنية الحديثة بكل اشكالها وبكل منافعها.

نحن نؤمن بان الاسلام لم يكن في يوم من الايام مانعا من التطور الانساني، ولا يقف حجر عثرة أمام تقدم الدول وازدهارها، ونؤمن أن القيم الدينية تدفع التجربة البشرية في الادارة الى التكامل بما يصب في النهاية للصالح العام.

لو نظرنا الى السلوك النبوي مثالا لوجدنا أنه لم يتردد من الأخذ بالأفكار الايجابية التي تساهم في تعميم الفائدة على المجتمع، وينقل المؤرخون كثرة عنايته باستشارة اهل الاختصاص في الحروب والقضايا الاجتماعية والادارية، رغم ارتباطه بالوحي.

إن ديدن البشرية هو السعي الدؤوب والمجاهدة للتطور والتقدم في تجربتهم الانسانية، يلاحظ ذلك في حجم التنافس العالمي بين الدول لنقل وصناعة التجارب الحديثة والمتجددة لضمان البقاء في المقدمة.

في مقابل ذلك يظهر واضحا أن حال دولنا غريب للغاية، اذ لا يمكن تخيل أن دولة في القرن الحادي والعشرين لا تزال تخضع في قراراتها لمناهج ومنطق دول بادت قبل الف عام وأكثر.

لا يعنيني أن هناك من يرى أن التدين هو اقتفاء اثر دول بادت منذ مئات السنين، ولا يحق لي او لغيري أن ننازعهم هذا الاعتقاد، فهو حق أصيل لهم.

لكن ما يثير الغرابة أن تخضع الدولة المعاصرة لمنطق تلك الدول، او إن تلزم الدولة الحديثة نفسها بقوانين ومنظومات دول بادت قبل عشرات السنين، فهذا أمر لا يتقبله عاقل.

ورغم غرابة هذا المنطق وشذوذه الا انه يأخذ حضوره القوي في الدولة، وتشرع له القوانين. اذ كيف نفسر قبول الدولة ملاحقة رجال دين وأصحاب رأي لانهم ناقشوا قضايا مختلف عليها في كتب التاريخ؟

وكيف نفسر تفعيل الدولة الحديثة للأجهزة الرسمية فيها لاتخاذ اجراء في ابعاد عالم او مفكر لانه ذكر حوادث وقعت ايام الخلافة الاسلامية؟

تسخير الدولة قوانينها واجهزتها الامنية لقضايا فكرية وتاريخية يحط من موقعها في نفوس المواطنين، ويعيدها الف سنة الى الوراء، وبدلا من ان تحقق تقدما في النمو الدولي، فإنها تسقط في وحل التاريخ.

يبقى السؤال: ما هو الموقف الذي يجب أن تتخذه الدولة امام شكوى هذا الطرف او ذاك لكونه أثار قضايا تاريخية مختلف عليها وتسبب في خدش فكر وعقيدة الآخر؟

الجواب: أن تدعوا الدولة الطرف المتضرر لشحذ الهمم والرد عليهم بالدليل والحجة والمنطق، فالافكار تواجه بالافكار، والاراء تواجه بالاراء، وليس أكثر من ذلك.

أما الدولة فعليها أن تكف يدها عن التدخل في هذا الجدال، باعتبارها كيانا محايدا لا شأن له بالانتصار لفئة او جماعة، ولا ينبغي أن يسمح لجهة رسمية ان تتدخل في عقائد الناس هجوما او دفاعا، فهذا ليس من شأن الدول البتة.