تقرير نشرته صحيفة “أوبزيرفر”..

أرشيف الحرب الباردة: سمعة كارلوس أخافت دول أوروبا الشرقية

"أرشيفية"

برلين

كشفت وثائق من الحرب الباردة أن الإرهابي العالمي إلييتش راميريز سانشيز والمعروف بكارلوس ابن آوى لم يكن قاسيا كما صور بل كان متغطرسا ونظرت إليه أنظمة الستار الحديدي التي تعاملت معه على أنه مسؤولية ومشكلة.

تقرير نشرته صحيفة “أوبزيرفر” وأعده جيسون بيرك قال فيه إن وثائق سرية اكتشفت في أرشيفات دول أوروبا الشرقية صورت كارلوس على أنه رجل مغرور ولا يوثق به وتاجر تلاعب بمخاوف وقلق وجهل صناع السياسة في دول البلطيق والبحر الأسود، وليس كما عرف كإرهابي فاعل يقوم بشن هجمات على الغرب، حتى نفد صبر قادة هذه الدول وطردته.

ويشير الكاتب إلى آخر مرة دخل فيها كارلوس دول أوروبا الشرقية. كان هذا في حزيران/يونيو 1986 عندما كان مع زوجته الحامل ورجل آخر بفندق ببراغ، عاصمة تشيكوسلوفاكيا قبل أن تنفصل. وكانا يتجادلا مع ضابطين من وكالة الاستخبارات التشيكية أرسلا لإقناعه بضرورة السفر على الرحلة المتوفرة إلى موسكو. ولم ينجحا بإقناعه ومن معه إلا بعد تحذيره أن فريقا من المخابرات الفرنسية في طريقه لاغتياله. وكان الثلاثة مسلحين وغادروا في المساء وهي آخر مرة يزور فيها أي من الثلاثة براغ، لا هو ولا زوجته ولا مساعده.

ذاعت شهرة كارلوس بعد سلسلة من العمليات التي نفذها نيابة عن تنظيمات فلسطينية ما بين 1973- 1975

وذاعت شهرة كارلوس بعد سلسلة من العمليات التي نفذها نيابة عن تنظيمات فلسطينية ما بين 1973- 1975. وصور كارلوس في الغرب على أنه عميل للمخابرات الروسية، كي جي بي، وتم تدريبه في الدول التابعة لموسكو في أوروبا الشرقية.

وفي مجموعة من المقالات التي حررها الباحث السويسري، أدريان هاني، وتركز على دور دول أوروبا الشرقية في مساعدة الإرهاب أثناء الحرب الباردة، يقول: “تكشف وثائق الأرشيف أن هذه الدول كانت في حالة دفاع عن النفس وفي وضع دائم من عدم الاستقرار وتخشى من انتقال العنف إلى خارج الستار الحديدي. ولا يوجد دليل على خطة لحملة تستهدف استقرار الغرب”.

وشهدت فترة السبعينات من القرن الماضي موجة من العمليات “الإرهابية” نشأت من الشرق الأوسط واستهدفت غرب وجنوب أوروبا. وهزت سلسلة من عمليات اختطاف الطائرات وعملية ميونيخ عام 1972 بالإضافة لعمليات اختطاف، الساسة في أوروبا حيث لم يعرفوا كيفية الرد عليها. وكان واحد من الحلول العملية هو التوصل إلى تفاهم مع المهاجمين. ويقول هاني: “واجهت الدول في غرب وشرق أوروبا نفس التحدي. وكانت الحكومات قلقة حول كيفية التعامل مع هذه الجماعات ولجأت إلى صفقات تعايش دفاعية” معها. وكان كارلوس الذي يتقن عدة لغات ابنا لمحام ماركسي قد انضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قبل أن يبدأ مشواره الخاص. وأدت سمعته كإرهابي قاس وعنيف لإساءة المسؤولين على جانب الستارة الحديدية تقدير التهديد الذي كان يمثله.

وتم الكشف عن العلاقة المعقدة بين كارلوس والنظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية في منتصف التسعينات من القرن الماضي وذلك بعد وصول المحققين والباحثين إلى سجلات المخابرات الألمانية “ستاسي”. وكشفت هذه أن المخابرات عرضت دعما على عدد من منفذي العنف بمن فيهم الفنزويلي. إلا أن علاقات كارلوس مع دول الاتحاد السوفييتي السابق في أوروبا الشرقية لم تتضح إلا الآن. فمع أن هذه الأنظمة كانت ملتزمة بالأيديولوجية الاشتراكية ومعاداة الإمبريالية والقضايا القومية الثورية مثل القضية الفلسطينية إلا أن الاعتبارات العادية هي التي حددت السياسة تجاه كارلوس وغيره من الرموز المشابهة له. فقد تم استهداف بعض الإرهابيين كمصدر للمعلومات الاستخباراتية أو كوسطاء في فرص تجارية مثل صفقات الأسلحة أو الحصول على التكنولوجيا الغربية أو البضائع لكن لم يتم استغلال استعدادهم للقتل والتشويه إلا في حالات نادرة.

وفي رومانيا حاولت المخابرات استخدام كارلوس لملاحقة المعارضين في الخارج. وأدت واحدة من العمليات إلى تدمير مكتب راديو أوروبا الحرة في ميونيخ الذي كان يبث دعاية معادية للشيوعية وكان ناقدا للنظام في بوخارست. ومقابل هذا حصل كارلوس على جوازات سفر أجنبية وحسابات في البنوك وتدريب وأسلحة ومتفجرات. وفي أماكن أخرى تبنى المعظم معاهدات “عدم اعتداء” وتسامح حالة وافق الإرهابيون على عدم استهداف أراضيهم أو مصالحهم.

وقال هاني: “لقد كانت الأسطورة (حول قدراته) هي التي سمحت له بعمل هذا وكان يعرف أن هذا أكبر رصيد يملكه”. ووجد كارلوس ملجأ في هنغاريا حيث عاش لعدة سنوات ولكن السلطات وضعته ومجموعته تحت الرقابة وفشلت بإقناعه مغادرة البلاد بعد تفجير محطة راديو أوروبا الحرة. وتعاملت السلطات البلغارية مع الفنزويلي كمشكلة وليس كمتعاون. ويعلق جوردان باييف، المحاضر بجامعة صوفيا الذي ساهم في الكتاب الجديد: “كانت الدولة البلغارية تخشى من هجمات على الأراضي البلغارية أو مصالحها في الخارج ولهذا كانت المهمة هي عدم استفزاز الجماعات أو أفراد مثل كارلوس”.

كانت الأسطورة (حول قدراته) هي التي سمحت له بعمل هذا وكان يعرف أن هذا أكبر رصيد يملكه

وزار كارلوس تشيكوسلوفاكيا أول مرة عام 1978 وبعد عام عاد لمقابلة عدد من الجماعات الإرهابية و”دبلوماسي” سوري. وتوقف لشراء العطر والويسكي وصندوق من السجائر وتناول الشراب في نادي ولنستين وأكل بمطعم هندي في ساحة وينسسلاس. وفي واحدة من زيارته أغلق كارلوس غرفته في الفندق من الداخل ومشى في ممرات الفندق ملوحا بمسدسه. وقام مسؤول بفتح الغرفة له.

ويقول دانيال ريتشتروفا، الباحث بالحرب الباردة والإرهاب بجامعة برونيل والذي اطلع على السجلات المتوفرة، إن كارلوس وغيره مثلوا معضلة لدول أوروبا الشرقية. وقال: “كانت الخدمات السرية فعالة ضد المعارضة المحلية ولكنها لم تكن جاهزة عندما بدأت تتعامل مع أشخاص غرباء وبأسماء مزورة وبمزاج عصبي سيئ ومؤهلات مشكوك فيها وأهداف غير واضحة”. و”كان المسؤولون يعرفون أنهم لا يستطيعون منع كارلوس من دخول تشكيوسلوفاكيا باستخدام أسماء وجوازات مزورة ولم يكونوا يريدون طرده خشية القيام بعملية انتقامية. وبدلا من ذلك قاموا بعملية رقابة للإرهابي ومن معه وأحيانا إرسال رسالة لهم أنهم مراقبون”.

وفي عامي 1982 و1983 شن كارلوس سلسلة من الهجمات في باريس لإجبار السلطات الفرنسية الإفراج عن صديقته ماغدلينا كوب التي سجنت لحيازتها متفجرات. ولكن الأيام التي كان فيها يستخدم أوروبا الشرقية كقاعدة اقتربت من نهايتها فبعد ثلاثة أعوام تحولت كل هذه الدولة وطردت كارلوس وأمثاله أو منعتهم من دخول أراضيها. وقال هاني: “اكتشفت المخابرات ألا خوف لو قامت بطردهم، وحصلت الولايات المتحدة وبشكل متزايد على معلومات عن الموجودين بشكل زاد من خوفهم”. وهرب كارلوس إلى دمشق عام 1986 وكانت رحلته إلى براغ مع زوجته الحامل كوب هي الأخيرة التي يزور فيها أوروبا حتى اعتقاله عام 1994 في الخرطوم حيث حوكم في فرنسا وصدر عليه حكم بالسجن مدى الحياة.