تأسيس مجلس أعلى للتربية خطوة لإصلاح التعليم في تونس

مساع لتدارك النقائص

تونس

 تترقّب الأوساط التربوية والاجتماعية في تونس تأسيس مجلس أعلى للتربية كما نصّ عليه دستور 25 يوليو 2022، في خطوة لإصلاح قطاع التعليم ومعالجة مشاكله المتعدّدة، خصوصا بعد تراجع المنظومة التربوية وتدهور قيمة التعليم في البلاد.

ويؤكّد خبراء التعليم على ضرورة أن يشمل الهيكل التربوي الجديد جملة من الآليات والشروط، عبر وضع تصوّر متكامل للقطاع والاهتمام بالتعليم العمومي، فضلا عن حوكمة المنظومة التعليمية وإرساء قواعد علوية القانون.

وقال وزير التربية السابق ناجي جلّول “يجب أن يكون المجلس الأعلى للتربية والتعليم في تونس مجلسا تشاركيّا وليس استشاريّا، ومن الضروري أن يشمل كلّ الهياكل الممكنة من منظمات على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظّمة الأعراف (اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية) وعمادة الأطباء، فضلا عن المربيّن والأولياء”.

وأكّد في تصريح لـ”العرب”، “ننتظر النصّ النهائي المتعلق بتأسيس المجلس، ولكنه لن يحلّ مشاكل التعليم في تونس، خصوصا مسألة تكوين المربّين، كما أن 97 في المئة من موارد وزارة التربية اليوم تخصّص للرواتب”.

وأضاف ناجي جلّول “هناك بنية تحتية منهارة، وجودة التعليم تراجعت في تونس، والمجلس الأعلى للتربية سيهتم بجزء من مشاكل التربية في البلاد”.

ويشهد قطاع التعليم في تونس أزمة حادة عقب اندلاع ثورة يناير 2011، في ظل تراجع المنظومة التربوية خاصة على مستوى المناهج وبسبب النقص في عدد المدرسين، إضافة إلى تدهور البنية التحتية وتداعيات المطالب النقابية، ما جعل البلاد تحتل مراكز غير مطمئنة في التصنيفات الدولية لقطاع التعليم.

وكان الرئيس التونسي قيس سعيّد، قد أشرف في وقت سابق، بقصر قرطاج، على اجتماع ضمّ محمّد علي البوغديري، وزير التربية، ومنصف بوكثير وزير التعليم العالي والبحث العلمي، ونصرالدين نصيبي وزير التشغيل والتكوين المهني.

وتناول الاجتماع مشروع النصّ الذي سينظم المجلس الأعلى للتربية والتعليم الذي تم إنشاؤه بمقتضى دستور 25 يوليو 2022.

وأكّد سعيد على أنه “تم العبث مطوّلا بالتعليم في السنوات الأخيرة، فبات مصير الأجيال رهين قرار وزاري يتغيّر كلّما تغير المسؤول عن الوزارة”، داعيا إلى “الإحاطة بإطار التعليم وإعادة الحياة إلى دار ترشيح المعلمين ودار المعلمين العليا”.

وأكّد سعيّد على “أهمية التربية والتعليم فكلاهما من قطاعات السيادة، وثروتنا البشرية لا تنضب”، قائلا إن “الكفاءات التونسية التي هاجرت إلى الخارج لا تقدّر بثمن، فتونس هي في الواقع من يقرض الذي يقرضها في الخارج”.

وتعاني منظومة التعليم في تونس من التهميش، حيث جعلت الإصلاحات المسقطة القطاع يتخبط تحت تأثير تغير التجارب والمناهج، ما أثّر سلبا على مستوى التلميذ التونسي وفاقم من نسب الرسوب والانقطاع عن الدراسة.

وإثر صدور قائمة بأفضل الأنظمة التعليمية في العالم، حلّت تونس في المركز الرابع والثمانين عالميا والسابع عربيا، في مؤشر جودة التعليم العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس لسنة 2021.

ويقول أكاديميّون ومتخصّصون في مجال التعليم، إن الدعوة إلى تأسيس مجلس أعلى للتربية تأتي إثر تراجع مستوى المنظومة التربوية في تونس وتدهور جودة التعليم وقيمه.

ودعا هؤلاء إلى ضرورة إرساء صبغة تشاركية لتكوين الهيكل الجديد عبر إشراك مختلف المؤسسات التي لها علاقة بالتعليم مثل منظمات المجتمع المدني وعدد من الوزارات، حتى يكون مجلسا متماسكا حول وزارة التربية يجمع النخب الثقافية والأكاديمية.

وقال سليم قاسم رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم “الدافع الذي جعل تأسيس المجلس الأعلى للتربية اليوم ضرورة، هو ما عاشته المنظومة التربوية من تخبّط منذ فترة التسعينات والانقطاع عن الواقع الدولي لأنها كانت قائمة على أهداف سياسية وحزبية، فكانت منظومة أخذ القرار التربوي بعيدة عن الواقع”.

وأضاف في تصريح لـ”العرب”، “ننتظر أن يقوم المجلس الأعلى للتربية على أركان مهمة، من بينها التخطيط التربوي والمبني على معطيات دقيقة تنطلق من واقع المؤسسة التربوية، وأن يكون آلية حوكمة للمنظومة التعليمية عبر إرساء قواعد التشاركية والشفافية والمساءلة وعلوية القانون التي لم تكن موجودة بالوضوح الكافي في السابق، فضلا عن آلية تقييم الأداء تقييما علميا على شاكلة التقييمات الدولية، إلى جانب التنسيق بين مختلف الأطراف المعنية والمتدخلين في الشأن التربوي على غرار وزارة التربية ووزارة التعليم العالي ووزارة الشباب والرياضة ووزارة الشؤون الثقافية، وتشتغل كلّها في نفس الاتجاه لضمان التكامل بينها”.

وتابع قاسم “التوجه اليوم في الساحة العالمية هو توجه نحو مبدأ التحسين المستمرّ للتعليم والتغييرات الجذرية على مستوى حوكمة المنظومة التعليمية، والقطع مع التردّد والاضطراب السابق، والمفاهيم اليوم أصبحت واضحة من أجل الإصلاح، ونريد أن تستعيد منظومة التعليم العمومي إشعاعها”.

ويتولّى المجلس الأعلى للتّربية والتّعليم إبداء الرّأي في الخطط الوطنيّة الكبرى في مجال التّربية والتّعليم والبحث العلميّ والتّكوين المهنيّ وآفاق التّشغيل، ويضبط القانون تركيبة هذا المجلس واختصاصاته وطرق تسييره.

ويعتبر المجلس مؤسسة استشارية ومرجعية جامعة لعدد من الوزارات (التربية، الأسرة والمرأة والطفولة، الشباب والرياضة، الثقافة، الشؤون الدينية) والمجتمع المدني، المنظمات الوطنية المعنية على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمة التونسية للتربية والأسرة والاتحاد الوطني للمرأة التونسية بالخصوص وممثلين عن وسائل الإعلام والاتصال.

وشددت الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ، في فبراير الماضي، على أنّ “الحلّ الجذري للمعضلة الهيكلية لقطاع التربية والتعليم في تونس لا يتمثل في تغيير المشرفين على القطاع (في إشارة إلى تعيين الرئيس التونسي لوزير تربية جديد) إنما هو رهين إرساء سياسات وإستراتيجيات وتنفيذ برامج لإعادة بناء مدرسة المستقبل على أسس سليمة”.

وأكدت الجمعية في بيان لها “على ضرورة الخروج بالملف من ثنائية التعامل (سلطة إشراف ونقابات) من خلال وضعه تحت عهدة المجلس الأعلى للتربية الذي لم يرى النور إلى حد هذا اليوم بالرغم من دسترته منذ يوليو الماضي”.

وأوضحت الجمعية أن “نسبة الأمية بلغت في تونس 19 في المئة وأنّ حوالي 33 في المئة من التونسيين لا يتجاوز مستواهم الدراسي الابتدائي، وأنّ 35 في المئة بلغوا مستوى التعليم الثانوي، وأنّ حوالي 13 في المئة فقط من التونسيين تابعوا تعليما عاليا”، وذلك بحسب تقرير المعهد الوطني للإحصاء الخاص بالتعداد السكني لسنة 2014 في باب الخصائص التربوية الوطنية في الجانب المتعلق بالتمدرس والأمية.

وينقطع 280 تلميذا يوميا عن الدراسة، وتمس هذه الظاهرة أساسا الذكور وتكبّد الدولة 1135 مليون دينار (362.33 مليون دولار)، أي ما يمثل نسبة 20 في المئة من ميزانية وزارة التربية، وهو ما يستوجب ضبط إستراتيجية وطنية شاملة لمقاومة هذه الظاهرة، التي أضحت تنخر المنظومة التعليمية في تونس.

ومنذ 2011 تواتر عشرة وزراء على تقلد منصب وزارة التربية في البلاد، وظلّ إصلاح منظومة التعليم والارتقاء بجودة البحث والمعرفة مجرد شعارات.

ويقول عامر الجريدي الخبير في التخطيط الإستراتيجي والتعليم إن “ملف إصلاح التعليم بات من أولويات الدولة من حيث اهتمام الرئيس وإيلائه الأولوية في مسار وجيه يربط بين الرؤية التربوية والرؤية التنموية باعتبار أن التعليم هو الأداة المحورية لتحقيق المنوال التنموي المُعتمد، فقد أعدّت وزارة الاقتصاد الصيف الماضي رؤية اقتصادية لتنمية ذكيّة لتونس في أفق 2035 باعتبارها تقوم على الاستدامة والتحوّل الرقمي وعلى أساس مبدأ العدالة الاجتماعية والاستثمار المستدام. من جهتها، أعدّت وزارة التربية من خلال مسار تشاركي مع المجتمع المدني يشمل الاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمة التونسية للتربية والأسرة رؤية لتربية ذكيّة في أفق 2035، تقوم على الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة (تعليم ذو جودة دامج منصف للجميع) وعلى التأهيل الرقمي والحوكمة الرشيدة”.

ويضيف لـ”العرب”، “هذا التوجه المنهجي التأسيسي الإستراتيجي هو المطلوب لوضع البلاد على سكّة الإصلاح الحقيقي، وسيكون المجلس الأعلى للتربية والتعليم الإطار المؤسساتي التشاركي الجامع لوضع أسس هذا التوجه عن طريق البناء بإرساء المعالم المنهجية والتنفيذية لمدرسة تونس الغد، كما سيكون بوصلة البلاد في الشؤون التربوية التي تتصل بالأسرة والمدرسة والمجتمع عموما (من دور شباب وثقافة وعبادة ومجتمع مدني وفضاءات اتصال وفضاء رقمي)”.

ويتابع عامر الجريدي “إن كانت حوكمة التربية والتعليم تعود إلى الوزارات المعنية، فإنّ رسالة المجلس تختصّ بالرؤية والاختيارات وتتمثل في وضع السياسة التربوية والتعليمية للبلاد في طريق يتقاطع مع المنوال التنموي المعتمد، بل هو الجهاز الجامع للسياسات (وأولها سياسة بيئية تنحدر منها السياسات الاقتصادية والاجتماعية والترابية والخارجية والتربوية – التعليمية)، بمعنى أن المجلس الأعلى للتربية والتعليم ليس دوره الإشراف على البنية التحتية ولا على السير البيداغوجي للدروس”.

كما يعتبر الجريدي أن “تونس في أمسّ الحاجة إلى بوادر ثورة فكرية وثقافية عبر إرساء منوال تعليمي يكرّس أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة ويضع البلاد على خطّ الحداثة التكنولوجية التي فرضتها جائحة كورونا وأسست لنظام عالمي جديد فرض التعامل الرقمي في مختلف أوجه حياة الإنسان وجعل العولمة تصبح عولمة رقمية بعد أن كانت غربية منذ النصف الأخير من القرن العشرين”.