صحف..

اتفاق إطاري في السودان بلا ضمانات سياسية كافية لصموده

"أرشيفية"

الخرطوم

يمثل اتفاق قوى مدنية وعسكرية على توقيع اتفاق إطاري بين الجانبين الاثنين أول خطوة ملموسة منذ انهيار التحالف بينهما قبل حوالي عام، وتعول عليه أطراف عديدة في الداخل والخارج لوضع حد لأزمة سياسية كادت تعصف بكل المكتسبات التي تحققت بالثورة على نظام الرئيس السابق عمر البشير، بعد أن حدثت تجاذبات بسبب رغبة الطرفين الرئيسيين في الاستئثار بالسلطة دون الآخر.

وأخفقت مناورات المكون العسكري في إبعاد القوى المدنية الرئيسية عن الحكم، وفشلت محاولات الأخيرة في تهميش المؤسسة العسكرية تماما، وعاد الطرفان إلى النقطة الأولى المتعلقة بالشراكة كحتمية سياسية تفرضها الأوضاع الراهنة في البلاد مع توزيع نسبي للمهام يؤدي إلى توازن لا يجعل طرفا مهيمنا على السلطة بمفرده، فلا يوجد طرف يستطيع القيام بهذه المهمة.

وكانت فترة العام المنقضي الذي أعقب رحيل الحكومة المدنية برئاسة عبدالله حمدوك كافية لتأكيد أن الحكم العسكري في السودان حظوظه ضئيلة ما لم يظهر تعاونا ملموسا مع القوى المدنية، وتكون سياساته واضحة ولا التباس فيها.

وبذلت لجان الوساطة الإقليمية والدولية جهودا للوصول إلى الاتفاق الإطاري المنتظر التوقيع عليه الاثنين، بما يوفر الحد الأدنى لمطالب كل طرف، وكي لا تنهار العملية السياسية برمتها بعد أن تنامت الاحتجاجات في الشارع وزادت المطالب الفئوية وعادت بعض الأقاليم لتمثل منغصا في خاصرة الدولة عندما تأكدت أن جزءا من تطلعاتها لم يتحقق بعد رحيل نظام البشير، وتنذر الأوضاع بما هو أقسى في الهامش.

تفاهم إقليمي ودولي
هذه واحدة من المرات القليلة التي تتعاون فيها قوى عديدة لمنع انفلات الأوضاع في السودان، حيث بذلت اللجنة الثلاثية المكونة من بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وهيئة إيغاد جهدا للتوصل إلى صيغة تفاهم عملية، بعيدة عن الاستقواء الذي حاول الجيش ممارسته، ومتجنبة الاستجابة التامة للشعارات التي رفعتها القوى المدنية.

وأثمر التنسيق بين اللجنة الثلاثية مع الرباعية الدولية المكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات في تذويب الهوة بين الطرفين العسكري والمدني.

وأسهمت الترويكا الأوروبية المكونة من بعثة الاتحاد الأوروبي وممثلي الدول الأعضاء فيه بدور بارز في تقريب المسافات لحث الجميع على التيقن من أن التفاهم الطريقة الوحيدة لإنقاذ البلاد في ظل صعوبة أن يحصل طرف واحد على كل شيء.

ويحدد الاتفاق الإطاري مهام كل طرف من دون إقصاء للآخر، وبموجبه قد تنتهي فترة قاسية على السودان، لكن الفترة المقبلة لن تقل صعوبة لأن الاتفاق الجديد الذي منح القوى المدنية صلاحيات كبيرة واستجاب لجزء معتبر من أهدافها لا يزال محل اختبار، فالجيش لن يتنحى عن ممارسة أدواره المدنية ولن يتوقف دوره في النواحي الأمنية، ولا يزال الشيطان يكمن، كما يقال، في التفاصيل.

في النهاية هو اتفاق إطاري أو عام، يحتاج إلى بنود تبلور ما جاء فيه ليعرف كل طرف حقوقه وواجباته، ودفعت نحوه القوى المعنية في الداخل والخارج لأجل التأكيد أن المساعي السياسية التي انطلقت عقب الانقلاب أصبحت ناضجة ومنتجة وأثمرت اتفاقا يمكن تطبيقه على الأرض، حيث ساد التشاؤم فترة طويلة من الزمن، وبدأت بعض الأطراف لا تثق في إمكانية التفاهم بين المكونين العسكري والمدني.

لم تعلن الكثير من القوى المدنية عن الانضمام إلى الاتفاق حتى الآن، فبعضها رفض مبدئيا الطريقة التي تم بها ويريد تقويض دور الجيش في الحياة المدنية وإلغاء أثره المادي، والبعض الآخر ينتظر ما سيمر به من اختبارات الفترة المقبلة، وهناك شريحة تعتقد أن القدر لن يمهل أطرافه للتفاهم إلى حين تحويل الاتفاق الإطاري إلى نهائي، فالخلافات التي تعتمل بين قوى متعددة لن تمهل القائمين عليه لتطبيقه.

خيارات غامضة
لا توجد ضمانات حقيقية تجبر كل طرف على الالتزام بما تعهد به، وعدد كبير من المشاركين الثقة بينهم منعدمة، لكن لأن الخيارات المتاحة كلها غامضة ولا أحد يريد تحمل مسؤولية حدوث المزيد من الانهيار في البلاد تمت الموافقة على اتفاق إطاري يمكن أن يوفر واقعا جديدا يفرض معطياته على الجميع، فالقوى الدولية التي هندست الاتفاق غير مستعدة لرؤية السودان وهو ينهار أو يدور في فلك روسيا.

وخشيت القوى الدولية التي لعبت دورا مهما في الوساطة الفترة الماضية من انفراط عقد المؤسسة العسكرية وما يجلبه ذلك من انعكاسات أمنية، وخشيت أكثر من عدم الاتساق مع شعاراتها التي أكدت عزمها على تسليم السلطة لحكومة مدنية، وحاولت قطع الطريق على مناورات الجيش عقب عزفه على وتر توطيد التعاون مع روسيا.

وتمثل ورقة موسكو نقطة محورية حركت قوى كبيرة للاهتمام بالسودان مع أن لديها ما يشغلها من هموم على امتداد الساحة الدولية، لكنها لم تعد قادرة على الانتظار لترى بلدا آخر يختطف ويدور في فلك روسيا، بكل ما ينطوي عليه ذلك من تداعيات إقليمية ودولية، ما جعلها تظهر قدرا من المرونة في التسامح مع دور الجيش المدني.

وكان دور الجيش في المجال الاقتصادي عنصرا خلافيا في المفاوضات التي جرت على مدار الأشهر الماضية، حيث تمددت أذرعه بصورة كبيرة في مجالات عديدة، مكنت الجيش من تكوين ما يشبه الإمبراطورية الاقتصادية كي لا يصبح رهينة لحكومة مدنية أو تحت رحمة قوى يمكن أن تنقلب عليه في أي لحظة.

تم تجاوز هذه المسألة أو العبور فوقها لضمان عدم تخريب الحوارات والمفاوضات، لكنها ستظل مطروحة لاحقا ويمكن أن تطل برأسها في بعض المحكّات المقبلة، لأن الاتفاق الإطاري ما هو إلا وصفة سياسية للتهدئة، إذ وصل الاحتقان إلى مدى قد لا تستطيع قوى الوساطة الإقليمية والدولية إيجاد وسائل لعلاجه.

◘ دخول الإسلاميين على خط الأزمة يزيد من التعقيدات التي تعترض حوار المكونين العسكري والمدني

ووجدت الأطراف التي ستوقع الاثنين على الاتفاق الإطاري في المنهج البراغماتي “خذ وطالب” مدخلا مناسبا لها للمضي قدما في المفاوضات لأن الإعلان عن اتفاق نهائي في السودان من المستحيلات التي لا أحد يتوقع حدوثها حاليا بعد أن بلغت الشكوك بين القوى المدنية والعسكرية مدى بالغ الخطورة، ونخرت الخلافات داخل كليهما أيضا، بحيث لا أحد يستطيع الإشارة إلى وجود كتلتين متقابلتين فقط.

وهناك شروخ كبيرة داخلهما بدأت تخرج إلى العلن، لو ترك لها المجال لن يلتئم جرح السودان أبدا، وكان المبدأ التوافقي الذي رفعت من شأنه جهات الوساطة عملا جيدا في هذه المرحلة، لكن لا توجد ضمانات لاستمراره في المستقبل، ففي لحظة معينة عندما يجد أحد الأطراف نفسه في موقف ضعف يمكن أن يقلب الطاولة على خصومة.

ولذلك فعدم وجود ضمانات من قوى الوساطة أو تعهدات حاسمة من القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري يشير إلى وجود أزمة كامنة قد تنفجر في منتصف الطريق، خاصة أن القوى المحسوبة على كل طرف ولم تشارك في التحركات الأخيرة يمكنها أن تظهر غضبها ورفضها، ويمكنها أيضا أن تقوم بخطوات تهدم المعبد على رأس من فيه، فهناك قائمة تباينات يصعب احتواؤها بمسكنات أو وعود براقة.

ويمثل التوقيع على الاتفاق الإطاري خطوة لن يكتب لها النجاح ما لم تظهر جميع الأطراف حسن نواياها، وتتسق تصوراتها المعلنة مع ما تضمره من توجهات تعتمد على الانحناء للعواصف إلى حين هدوئها، فالسودان لن يتحمل نقضا جديدا للوعود والعهود التي أدمنها على مدار تاريخه الحديث.