اليمن..

ماذا يقف خلف المظاهرات الشعبية الحاشدة في حضرموت؟

"أرشيفية"

الرياض

تشهد مدينة المكلا، عاصمة محافظة حضرموت، منذ أيام احتجاجاتٍ شعبية غاضبة غير مسبوقة؛ بسبب تردي الأحوال المعيشية والاقتصادية. وقد انتشرت أعمال الشغب والمظاهرات في عدة أحياء من المدينة الساحلية، كما بدأت موجة الغضب تنتقل تدريجياً إلى المديريات المجاورة.

ومن المعتاد أن تشهد المدينة احتجاجاتٍ من وقتٍ لآخر منذ سنوات، لكن الاحتجاجات الجارية اتسمت بتزايد حدتها بشكل لم يسبق له مثيل، منذ مظاهرات الحراك الجنوبي السلمي في العام 2007. كما يرافق الأحداثَ الجارية تأييدٌ شعبي واسع، باستثناء أعمال العنف والإضرار بالممتلكات العامة التي قد تحدث. شملت أعمال الشغب الحالية قطع الطرقات، وإشعال النيران، والتظاهر أمام بعض المؤسسات؛ مثل الميناء، والمدارس، ومراكز الأمن، ومحلات بيع وشراء العملات، وقد أدت محاولات رجال الجيش للسيطرة على الموقف إلى وقوع جرحى من المدنيين.

أهم أسباب المظاهرات الجارية هو تزايد انقطاع التيار الكهربائي عن هذه المدينة الساحلية الرطبة والحارة. عادة ما تتزايد مشكلة الكهرباء خلال فصل الصيف، حيث قد يستمر انقطاع الكهرباء خلال اليوم من 12-18 ساعة. خلال هذه الفترة من السنة تصبح درجات الحرارة على أعتاب الأربعين درجة مئوية خلال النهار؛ مما يجعل الحياة داخل المنازل وأماكن العمل لا تُطاق مع توقف تشغيل أجهزة التكييف والمراوح.

عادة ما يترافق مع فصل الصيف تظاهرات يمكن أن يُطلق عليها “موسمية”، لكن، تعرضت منطقة ساحل حضرموت مطلع سبتمبر الحالي إلى موجة حرارة غير اعتيادية، ترافق معها انقطاعات متزايدة للتيار الكهربائي، وذلك على الرغم من تفاؤل السكان باقتراب موعد حلول الشتاء، حيث تكون درجات الحرارة معتدلة، وانقطاعات الكهرباء أقل نسبياً.


يتقدم طلابُ المدارس مقدمةَ صفوف المحتجين في بعض المناطق؛ حيث يعاني الطلاب الحر الشديد داخل الصفوف وفي البيوت، مما يؤثر على سير العملية الدراسية، وقدرتهم على التعلّم والمذاكرة. في محافظة عدن التي تشبه مدن ساحل حضرموت من حيث المناخ، على سبيل المثال، اُقترح تعليق الدراسة بسبب هذه الظروف القاهرة، إضافة إلى تفشي وباء فيروس كورونا.

وفي حين أن السبب المباشر لتزايد حدة الغضب الشعبي مؤخراً هو الانقطاعات التي لا تُطاق للتيار الكهرباء، فإن السبب الجوهري الآخر هو تردي الخدمات والأوضاع المعيشية والتدهور الاقتصادي في حضرموت؛ بسبب تراجع القدرة الشرائية تأثراً بانخفاض قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية. وصل سعر الصرف إلى مستوياتٍ قياسية مؤخراً؛ حيث تعدى سعر صرف الدولار الأمريكي حاجز الألف ريال يمني، كما تجاوز سعر صرف الريال السعودي الثلاثمائة ريال يمني لأول مرة في تاريخ البلاد.

تتراجع قدرة المواطنين على تلبية احتياجاتهم الأساسية مع كلِّ ارتفاع في سعر الصرف؛ حيث يتم استيراد أغلب المواد الغذائية والمستلزمات بالعملة الأجنبية، وحتى المنتجات المحلية، مثل المنتجات الزراعية، تتأثر أيضاً بسبب ارتفاع تكاليف النقل والوقود والعمالة.

على سبيل المثال، يعتمد سكان مدينة المكلا، وغيرها من مناطق حضرموت، بشكلٍ أساسي على الأسماك في وجبة الغداء اليومية بسبب موقع المحافظة الساحلي، ومهنة الصيد التي يعتمد عليها قطاع كبير من سوق العمل. لكن، في ظلِّ الأوضاع الحالية، أصبح السكان أقل قدرة أكثر من أي وقت مضى على شراء الأسماك التي أصبحت باهظة الثمن، ولا تتناسب مع قدرة المواطنين على الشراء.


ولإعطاء فكرة عن هذه الحالة المتأزمة، فقد وصل سعر الكيلوجرام الواحد من سمك التونة الذي يُشتهر به البحر العربي من 6 إلى 8 آلاف ريال؛ أي حوالي من 7 إلى 9 دولارات أمريكية، وفي المقابل، يبلغ المتوسط التقريبي للرواتب 80 ألف ريال شهرياً؛ أي 72 دولارا تقريباً.

وأمام هذا الغلاء الفاحش في الأسعار، ازدادت أيضاً تكاليف السكن والمحلات التجارية في المدن، خصوصاً مدينة المكلا. كما بات المؤجرون يتعاملون بالريال السعودي بدلاً عن اليمني، ويبلغ متوسط إيجار الشقة الصغيرة إلى متوسطة حوالي 800 إلى 1000 ريال سعودي؛ أي حوالي من 213 إلى 266 دولاراً. وهو ما يفوق دخل السواد الأعظم من الناس.

أما المحلات التجارية فقد يصل إيجارها من 1000 إلى 5000 ريال سعودي، وينعكس كل ذلك على أسعار السلع والخدمات بالضرورة. وهذا ما يجعل مدينة المكلا الأغلى في حضرموت، من حيث تكاليف المعيشة.

تتسبب كل هذه العوامل في أزمةٍ اقتصادية خانقة تثير غضبَ جميع الفئات؛ فأصحاب المشاريع يواجهون تحدياتٍ تهدد بتوقف أعمالهم، ومعظم المواطنين بالكاد قادرين على توفير وجبة أو اثنتين ذات قيمة غذائية متنوعة ومتوازنة خلال اليوم، والطلاب غير قادرين على الدراسة بسبب الظروف الاقتصادية أو المناخية وظروف البنية التحتية، والطبقة الكادحة تكافح من أجل البقاء.

يطالب المحتجون الغاضبون بإصلاح أوضاعهم، لا أقل ولا أكثر، وهم يحمّلون السلطات المحلية المسؤولية أكثر من أي سلطة أخرى. يعتقد المواطنون أن محافظتهم الغنية بالنفط يجب أن تمنحهم وضعاً أفضل، لكن الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة والاستبدادية في اتخاذ القرارات غير المدروسة، هو ما يقود المحافظة نحو الهاوية، بحسب المواطنين.


يتصدر محافظ حضرموت؛ فرج سالمين البحسني، قائمة المُلامين على تردي الأوضاع، ويطالبه المحتجون بالإصلاح أو الرحيل. يؤدي المحافظ دوراً سياسياً برغماتياً منذ توليه السلطة؛ في محاولة منه للموازنة بين الحكومة الشرعية ومطالب الجنوبيين، وداعمي كل طرف منهما. إضافة إلى ذلك، منحت أوضاع الصراع في البلاد المحافظ سلطة غير مقيدة؛ مما يؤدي إلى اتخاذ قراراتٍ غير صائبة تمثلت في عدد كبير من المشاريع الفاشلة، وعدم القدرة على معالجة المشكلات الأكثر إلحاحاً، كما أدت تلك السلطات المطلقة إلى تقليل دور جهاز الرقابة والتفتيش، وزيادة الفساد.

قد يرى الكثيرُ من المحللين أن الأوضاع الحالية في البلاد تتطلب الكثير من المناورات السياسية والبراغماتية للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من أمن واستقرار، هذا صحيح إلى حدٍّ كبير، لكن ينبغي أن يترافقَ مع ذلك مقدارٌ ملائم من الإصلاح الاقتصادي، بما ينعكس إيجاباً على مستوى الحياة المعيشية، والخدمات العامة الضرورية.


تُعتبر محافظة حضرموت الأغنى نفطياً في البلاد، ولطالما رفَدَت خزينة الدولة بالنسبة الأكبر على الإطلاق من الموارد المالية لعقود. تنتج المحافظة اليوم كمية متواضعة من النفط، تبلغ حوالي 57 ألف برميل يومياً، بحسب التقديرات. نصيب المحافظة من هذا الإنتاج هو 20% من الإيراد، كما تمتلك المحافظة العديد من مصادر الدخل الأخرى؛ مثل الضرائب، والموانئ، ورسوم النظافة والخدمات، والرسوم المحلية التي تضاف إلى فواتير الكهرباء والمياه، وغيرها من الموارد.

تصبح جميع هذه الإيرادات موضع تساؤل بين المواطنين، يوماً بعد آخر، لعدم وجود أي تأثير إيجابي لها على أرض الواقع.

غالباً ما تدَّعي السلطات المحلية عدم توفر الإمكانات اللازمة للاستجابة لمطالب السكان، توعَّد المحافظ بضع مراتٍ بإيقاف تصدير النفط، وبالتالي إيقاف الإيرادات الأساسية عن الدولة للضغط عليها، لكن شيئاً لم يتم من ذلك، وغالباً ما يتم تنفيذ بعض الإجراءات السطحية لتهدئة الموقف.


ومع ذلك، وفي أحدث أخبار السلطة المحلية المنشورة على صفحة المحافظة الرسمية على فيسبوك، فقد ناقش محافظ حضرموت دراسة وتنفيذ عددٍ من المشاريع مع شركاتٍ صينية، من بينها مشاريع الطاقة، وبحسب ما ورد في الخبر، فإن تلك المشروعات ستتم بتمويلٍ من السلطة المحلية، وهو ما يضع مزيداً من الشكوك حول صحة الادعاء، وفي نفس الوقت حول قدرات المحافظة المالية.

وأيّاً ما كانت الحقيقة، فإن المواطن لا يرغب بأكثر من عيشةٍ كريمة في وطنٍ آمن، وهذه وظيفة الدول التي تستمد سلطتها وشرعيتها من المجتمع، ولا شك أن تحسن الأوضاع المعيشية هو معيار الحاكم الناجح والنزيه لدى المواطنين اليوم.