الردع ضروري للحد..

تغليظ عقوبات التحرش في مصر يختبر شجاعة الضحية

يؤكد خبراء علم الاجتماع على أن تشديد العقوبات ضد التحرش الجنسي ليس كفيلا وحده بالحد من الظاهرة، داعين إلى ضرورة المواجهة المجتمعية، خصوصا وأن هناك شريحة كبيرة مازالت لا تتعاطف مع الضحية وتفتش في أخلاقها وتصرفاتها وملابسها في سلوك يبرر فعلة المتهم. ويتطلب القضاء على ظاهرة التحرش أن يتعامل الناس مع أي فعل غير سوي تجاه المرأة على أساس أنه عيب.

"أرشيفية"

القاهرة

استقبلت عبير سليمان الناشطة النسوية والمتخصصة في قضايا المرأة بمصر التعديلات القانونية التي أقرها الرئيس عبدالفتاح السيسي، وقضت بعقوبات مشددة على المتهمين في جرائم التحرش بإشادة مصحوبة بالتخوف من استمرار الكثير من الأسر وأفراد المجتمع في لوم الضحية، والإيحاء بأن ملابسها أو تصرفاتها كانت سببا في إغراء الجاني، أو التراخي في تطبيق العقوبات الصارمة.

ونصت التعديلات على أن يعاقب المتحرش بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تتجاور أربع سنوات لكل من تعرض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأي وسيلة كانت، بما في ذلك وسائل التواصل السلكية واللاسلكية والإلكترونية.

وهذه المرة الأولى التي تتحرك فيها الدولة المصرية لمواجهة التحرش الإلكتروني بصرامة بعد ضغوط مارستها منظمات نسوية وحقوقية وجمعيات معنية بقضايا المرأة، ووصل الأمر حد ابتزاز الضحايا وترهيبهم للامتناع عن اللجوء إلى القانون، وحتى إذا تقدموا ببلاغات فإن النيابات العامة تواجه معضلة عدم وجود عقوبة للتحرش الإلكتروني تحديدا.


عبير سليمان: سلاح الردع يتحقق عندما يتم إسقاط المبررات الواهية

وتضمنت الخطوة فرض عقوبة الحبس بمدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تتجاوز خمس سنوات، وغرامة لا تقل عن مئتي ألف جنيه (حوالي 14 ألف دولار)، ولا تزيد على ثلاثمئة ألف جنيه (نحو 21 ألف دولار)، أو بإحدى العقوبتين إذا تكرر الفعل من الجاني عبر الملاحقة والتتبع للمجني عليها، وفي حالة العودة إلى الفعل تضاعف عقوبات الحبس والغرامة.

وحال كان المتحرش من الذين لهم سلطة وظيفية أو أسرية أو دراسية على المجني عليها، أو قام بضغط تسمح الظروف بممارسته عليها، أو ارتكبت الجريمة من شخصين فأكثر أو كان أحدهم على الأقل يحمل سلاحا، تكون العقوبة السجن مدة لا تقل عن سبع سنوات وغرامة لا تقل عن خمسمئة ألف جنيه (نحو 35 ألف دولار).

وقالت عبير سليمان لـ”العرب” إن ميزة التعديلات ترهب المتحرشين في بيئات العمل والتعليم لكن المعضلة ليست في تغليظ عقوبة التحرش، بل ترتبط بتعامل المجتمع مع قضية التحرش، فالناس أحيانا لا تتعاطف مع الضحية وهناك شريحة كبيرة ما زالت تفتش في أخلاقها وتصرفاتها وملابسها كأنها تبرر الفعل المشين للمتهم.

وأضافت أن القضاء على ظاهرة التحرش يتطلب أن يتعامل الناس مع أي فعل غير سوي تجاه المرأة يفترض أن يكون عيبا ويمس الرجولة والكرامة والشهامة، ونشر هذا الفكر في المجتمع يجعله يواجه أي محاولة للتحرش، لأن هذا السلوك مهين ويشوه الصورة العامة ولا يجب التعويل على القانون وحده دون مساعدة الأسر نفسها.

وما زالت الكثير من الأسر تتعامل مع وقائع التحرش باعتبارها من التصرفات التي لا تستحق مواجهتها بالتقاضي ويمكن التصالح فيها طالما أن الجاني اعتذر وطلب السماح، وأدخل وسطاء ومعارف وعلاقات مع أفراد داخل عائلة الضحية، وفي الغالب ينتهي الأمر إلى لا شيء وتدفع الأنثى وحدها فاتورة الأذى النفسي والجسدي.

ويرى خبراء في العلاقات الأسرية أنه مهما كانت عقوبات القوانين صارمة لن تقود إلى تطهير المجتمع من الظواهر السلبية إلا إذا كانت هناك مواجهة مجتمعية قبل تفعيل نصوص القوانين، واقتنعت الأغلبية بأن التحرش مهما كانت صوره وأشكاله من الأمور المعيبة، ويجب أن يجابه بما يعرف بالردع المجتمعي الذي يفرض الأخلاقيات بالترهيب.

وطالما أن ثمة من يتعاطف مع المتهم بالتحرش وتحدث انقسامات أسرية مع كل واقعة، فمن الصعب تطبيق سياسة الردع لأنها تتطلب توحد جميع أفراد المجتمع نحو هدف واحد، أما إذا استمر الشد والجذب وارتفاع نبرة التبرير والتماس العذر للذئاب البشرية بداعي أنهم مهووسون جنسيا أو مرضى نفسيون فالظاهرة ستظل موجودة.

وتتعارض مخاوف الكثير من الأسر من الإبلاغ عن المتهم بالتحرش مع تطبيق الردع المجتمعي قبل القانوني. فالدولة فعلت ما عليها بتغليظ العقوبة، لكن المجتمع ما زال يعتقد أن النبش في قضية مرتبطة بجسد المرأة أمام المحاكم يمس شرفها وعفتها ويلحق بها الفضيحة والعار، وقد يتم الانتقام منها مستقبلا من عائلة المتحرش.

ورأت سليمان أن سلاح الردع يتحقق عندما يتم إسقاط المبررات الواهية للمتحرشين بشأن ملابس المرأة، مع أن هناك وقائع تحرش تحدث بحق المنتقبات والمحجبات، والأمر صار بحاجة إلى شجاعة أسرية كمدخل لكسر جدار الصمت، لأن السلبية في المواجهة تشرعن التحرش باعتبار أن فكرة الردع غير مطبقة.

ما يبرهن على صحة هذا الطرح أن الحكومة المصرية أضافت أكثر من مرة تعديلات جديدة على قانون العقوبات خاصة بردع المتحرشين، ويتم تطبيق النصوص منذ عام 2014، وتم تعديلها في 2016، ثم 2018، وأخيرا قبل أيام، في حين أن الظاهرة موجودة، ولم يعد التحرش قاصرا على النظرات والكلمات الإباحية بل امتد إلى لمس أجساد النساء بطريقة مقززة.

ما زالت الكثير من الأسر تتعامل مع وقائع التحرش باعتبارها من التصرفات التي لا تستحق مواجهتها بالتقاضي ويمكن التصالح فيها طالما أن الجاني اعتذر

ويؤكد مؤيدون لتغليظ عقوبة التحرش أن تحقيق فكرة الردع لمساندة القانون في مواجهة المتحرشين يتطلب غلق الثغرات أمام أي محاولة لتصالح الضحية مع المتهم تحت ضغوط عائلية، ولم يعد هناك بديل عن فرض عقوبة خاصة على المتحرش كحق للمجتمع حتى لو تنازلت ضحية التحرش لفائدة الجاني.

وقال عادل بركات الباحث والخبير في العلاقات الاجتماعية والأسرية بالقاهرة، إن ندرة القضايا المنظورة أمام المحاكم لمتهمين بالتحرش تعكس السلبية الأسرية والمجتمعية في التعامل مع هذه الوقائع كجريمة لا تغتفر، ولا تقبل التهاون أو التنازل فيها، لأن الفتاة غالبا ما تكون أسيرة لتدخلات أقاربها لمصالحة الجاني وغلق القضية.

وأوضح لـ”العرب” أن استمرار التحرش رغم غلظة العقوبات يرتبط بتسامح قطاع كبير في المجتمع مع مرتكبي هذه الجريمة بشكل يمنح باقي الذئاب البشرية المزيد من الجرأة والتبجح وتحدي سلطة القانون لأن المفترض بهم طلب تنفيذ القانون، وأفراد الأسرة والمجتمع لا يبالون ولا يهتمون بتطبيق الردع، إذا القانون يصدر ولا ينفذ.

وأصبح حصول أي فتاة مصرية على حكم قضائي ضد المتهم بالتحرش من الوقائع النادرة في البلاد ما يعكس غياب ثقافة الثأر من المتهمين عند أغلب الأسر، وقد تكون هذه القضايا مدعومة من منظمات حقوق المرأة التابعة للحكومة، أيّ أنها من توفر للضحية المساعدة والأمان من الأذى، وتدافع عنها إلى حين حصولها على حق وسط لوم المجتمع لها.

ويعتقد متابعون لهذه الظاهرة أنه لا يجب أن تتعامل الحكومة مع وقائع التحرش باعتبارها شأنا شخصيا يتعلق بالضحايا، بل صار عليها أن تقتص للمجتمع نفسه، وتحاسب الجاني حتى لو تنازلت المجني عليها بحيث يتم اعتبار التحرش من جرائم النظام العام وتصالح الضحية لا يمنع الجهات المختصة من اتخاذ ما يلزم لمصلحة المجتمع الذي يلوم أكثر ما يردع.