اعتداءات جسيمة على الحقوق أثناء الحرب ومحاكمات جائرة بعدها

أخطاء جوهرية في الحرب ضد داعش تمنح التنظيم حياة ثانية في العراق

أثرُ الأخطاء والتجاوزات الجسيمة التي اُرتكبت أثناء الحرب على تنظيم داعش في العراق والتي يرتقي بعضها إلى مرتبة جرائم حرب، لا يقتصر على الجوانب الأخلاقية والحقوقية، ولا يمسّ فقط سمعة البلد وقوّاته المسلّحة التي تضم في صفوفها عناصر غير مهنية وفصائل طائفية، لكنّه يمتدّ إلى الجانب الأمني عندما تُحوّل تلك التجاوزات جلاّدي التنظيم إلى “ضحايا” وتهيّئ له الأرضية لتصيّد المزيد من الأتباع في صفوف فاقدي الأمل في الدولة وعدالتها.

نصر لم يكتمل

الموصل

إذا كان تنظيم داعش لا يزال عصيّا عن الاجتثاث بشكل نهائي في العراق وقادرا على استمالة بعض المغرّر بهم، فذلك لأنّ أخطاء جسيمة ارتكبت في الحرب ضدّه خلال سنوات سيطرته على مناطق شاسعة من البلاد، لا تتعلّق بالتكتيكات العسكرية والأمنية والأساليب الاستخباراتية، ولكن بأخلاقيات الحرب وقوانينها، والتي كثيرا ما تم الدوس عليها وتجاوزها، لتختلط بذلك المواجهة المشروعة ضدّ تنظيم إرهابي، بنوازع الانتقام والتشفّي بدوافع فردية حينا، وطائفية وعرقية وعشائرية أحيانا أخرى.

ودارت أغلب فصول الحرب العسكرية على داعش في العراق بين سنتي 2014 و2017 داخل المناطق المأهولة بالسكّان، وكان لاختلاط عناصر التنظيم بالعشائر المحلية وانتماء الكثير منهم إلى تلك العشائر أثر في تعظيم الخسائر وتعميم الأضرار.

وكان من أخطر أنواع التجاوزات في الحرب انزلاقها في بعض الأحيان إلى عملية انتقام جماعي من سكان بعض المناطق بسبب انتماء عناصر من داعش إليهم. ولم ينفصل الانتقام في أحيان كثيرة عن خلفيات طائفية وذلك بسبب مشاركة ميليشيات شيعية في الحرب، بينما كان الطرف المقابل، وهو التنظيم المتشدّد، محسوبا على الطائفة السنّية.

ضمير يقظ

أعاد تقرير لهيئة البث الكندية “سي.بي.سي” نُشر مؤخرا تسليط الأضواء على التجاوزات الكثيرة التي شابت الحرب ضد داعش في العراق.

وورد في التقرير الذي أعده موراي بروستر الصحافي المتخصص في النزاعات والحروب أنّ الشرطة العسكرية في كندا شرعت في الاستماع لشهادات مدربين عسكريين سابقين شاهدوا مقاطع فيديو تصور جرائم حرب محتملة قامت بها قوات الأمن العراقية.

ونُقل عن القائم بأعمال القائد العسكري للبلاد واين آيري قوله إنّه أمر بالتحقيق لمعرفة ما بحوزة الضباط الكنديين من معلومات حصلوا عليها عندما كانوا في مهمّة تدريب بشمال العراق استمرت حوالي ثلاث سنوات.

وقامت تلك القوات بتدريب الشرطة العراقية في الأشهر التي أعقبت استعادة مدينة الموصل من داعش في أواخر سنة 2016 بعد عامين من الحكم الوحشي لتنظيم داعش.

وقدمت القوات الكندية الخاصة المشورة وساعدت الجنود الأكراد المشاركين في عملية استعادة المدينة إلى جانب القوات المشتركة التي من ضمنها ميليشيات شيعية اتهمتها جماعات حقوق الإنسان بارتكاب فظائع.

وقال القائم بأعمال القائد العسكري الكندي في مقابلة مع الهيئة الكندية “عندما سمعت عن المزاعم حول هذا الأمر شعرت بالقلق الشديد وأمرت بالتحقيق لمعرفة الحقائق”.

وقالت مصادر مطلعة على القضية للهيئة إن بعض الجنود الكنديين الذين كانوا يدرّبون الشرطة العراقية في “أدق نقاط عمليات مكافحة الإرهاب” بما في ذلك قوانين النزاع المسلح، أجروا مقابلات مع محققي الشرطة العسكرية.

وكان موقع “بوست ميديا” قد ذكر الشهر الماضي أنه في غضون أيام من وصول الجنود الكنديين إلى قاعدة تدريب تشرف عليها الولايات المتحدة بالقرب من الموصل شاهد هؤلاء مقاطع فيديو لجرائم حرب محتملة قام بتصويرها المتدرّبون المحلّيون.

وتظهر المقاطع بحسب شهادات مصادر مطلعة قيام قوات الأمن العراقية باغتصاب امرأة حتى الموت، إلى جانب عدة نماذج مروّعة لتعذيب وإعدام سجناء من عناصر داعش. وأبلغ المدربون قائد الوحدة الكندية الذي طلب منهم عدم مشاهدة أي مقاطع فيديو أخرى ووعد برفع الأمر مع القيادة.

ويشير التقرير إلى أن ما لفت الانتباه إلى هذه القضية التي كان يمكن أن تصبح طي النسيان مذكرة إحاطة قدمها جندي مجهول للقائد الجديد للكتيبة الثالثة في الفوج الملكي الكندي.

وكتب الجندي في تلك المذكرة أنّه حاول ثلاث مرات لفت الانتباه الرسمي إلى أن الجنود أصيبوا بصدمة نفسية من التجربة. وقال “أنا رجل أخلاقي وأؤمن بقانون النزاع المسلح”، وفقا لنسخة من المذكرة حصلت عليها هيئة البث الكندية.

وأضاف “كنت أفكر في الحادث كل يوم منذ وقوعه. وأزعجتني حقيقة أن واجباتي المكلف بها سمحت لي بتدريب وتمكين أشخاص مجرمين”.

وتابع أنه لم يرَ شيئا مثل ما رآه في مقاطع الفيديو، مضيفا “من بين جميع تجاربي، لم يؤثر أي منها سلبا على صحتي النفسية بقدر هذه الحادثة بالذات”.

وقال ستيوارت هيندين المحامي والخبير الذي قدم المشورة لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة حول قانون النزاعات المسلحة، إنه إذا تم الإبلاغ عن الأمر في التسلسل القيادي الكندي سيكون هناك واجب إبلاغ مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة وسيكون الأمر متروكا لتلك الوكالة لتحديد ما إذا كان قد تم ارتكاب جرائم حرب، موضّحا “بالنظر إلى ما تتضمنه مقاطع الفيديو، كانت هناك على الأقل انتهاكات لحقوق الإنسان إن لم يكن أكثر من ذلك بكثير”.

ملف مفتوح

كانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد اتهمت من قبل قوات الأمن العراقية وميليشيات موالية لها بارتكاب جرائم حرب محتملة في عام 2015 أثناء حربها على تنظيم داعش.

وفي 2017 دعت منظمة العفو الدولية الدول التي تزوّد العراق بالأسلحة إلى فرض ضوابط أكثر صرامة على عمليات نقل الأسلحة وتخزينها ونشرها، وذلك منعا لوصولها إلى أيدي ميليشيات ترتكب بواسطتها جرائم حرب.

وقالت المنظمة “قامت الميليشيات شبه العسكرية التي تضم أغلبية شيعية وتعمل تحت مظلة الحشد الشعبي بعمليات إعدام خارج نطاق القضاء وتعذيب واختطاف الآلاف من الرجال والفتيان”.

ولا تزال إلى اليوم المئات من العوائل في شمال العراق وغربه تبحث عن أبنائها الذين فُقد أثرهم منذ تمّ اعتقالهم بشكل عشوائي لدى دخول الميليشيات والقوات العراقية إلى مناطق كانت تحت سيطرة داعش.

ومطلع الشهر الجاري طالبت منظمة العفو الدولية السلطات العراقية بالكشف عن مصير أكثر من ستمئة رجل وشاب من أبناء الطائفة السنيّة خطفوا قبل خمس سنوات على يد ميليشيات شيعية منتمية لقوات الحشد الشعبي التي تمّ تحويلها إلى هيئة رسمية.

وأوضحت المنظمة في تقرير لها أن هؤلاء فقدوا خلال الحملة العسكرية التي قام بها الحشد لاستعادة مدينة الفلوجة غربي البلاد في يونيو 2016 من تنظيم داعش.

وفي الثالث من الشهر نفسه، وفيما كان الآلاف من النازحين يفرّون من الحرب قام مسلحو الحشد، وفق شهود، بأخذ نحو 1300 رجل وشاب.

ويضيف التقرير أن 643 من هؤلاء نقلوا في ليلة اليوم نفسه في حافلات وشاحنة كبيرة إلى وجهة مجهولة ومازالوا إلى اليوم مفقودين، فيما أفاد الباقون أنهم تعرضوا للتعذيب وإساءة المعاملة.

وبعد يومين من ذلك قام رئيس الوزراء حينها حيدر العبادي بتشكيل لجنة تحقيق في الانتهاكات والأعمال الانتقامية ضد السُنّة لكن “نتائج ذلك التحقيق لم تنشر قط” وفق منظمة العفو التي أوضحت أنّ “عائلات هؤلاء الرجال تنتظر منذ خمس سنوات لمعرفة ما إذا كانوا على قيد الحياة. وهي تستحق أن تنتهي آلامها”.

وخلال الحرب ضد تنظيم داعش في العراق ندّدت منظمات غير حكومية وعائلات بانتهاكات ارتكبتها كافة الأطراف. وكان النزاع سببا للعديد من المجموعات لتقوم بهجمات انتقامية ذات دوافع طائفية بين الشيعة والسنّة، أو إثنية بين الأكراد والعرب.

وينفي الحشد الشعبي قيامه بخطف أو توقيف أشخاص تعسفيا، لكن قادته يعترفون بسجن أفراد يقولون إنّهم منتمون لداعش، دون أن يقدّموا دليلا على ذلك.

ويقول السُنّة في العراق إنهم يتعرّضون للتمييز والاضطهاد بعد مرحلة سيطرة تنظيم داعش على مناطقهم، حيث أوقف الآلاف منهم وحكم عليهم بالسجن أو الإعدام بتهم كيدية لا تستند إلى أدلّة واضحة.

وتوجد المئات من السجون ومراكز الاحتجاز المنتشرة في المحافظات العراقية. ويعتبر سجن الحوت في محافظة ذي قار جنوبي البلاد أكبرها جميعا ويوجد داخله 11 ألف متهم بالإرهاب بينهم 6 آلاف مدان صادرة بحقهم أحكام إعدام من القضاء وفق إحصائيات رسمية للسلطات العراقية.

وتجري محاكمة هذا النوع من المتهمين بموجب المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب، والتي تنص على “الحكم بإعدام كل من ارتكب، بصفته فاعلا أصليا أو شريكا في الأعمال الإرهابية”، لكن المشكلة تكمن في ضعف الأدّلة التي يستند إليها في محاكمة الكثير من هؤلاء والتي لا تتعدى أحيانا مجرّد تهم كيدية في إطار تصفية حسابات وأحقاد شخصية وعشائرية وطائفية.

خدمة للتطرّف

لا تقتصر مخلّفات حقبة داعش الدامية في مناطق السنّة بالعراق على ملف المخفيين قسريا والمتّهمين كيديا، ولكنّ تتعدى ذلك إلى سيطرة ميليشيات شيعية إلى اليوم على عدد من المناطق التي شاركت في استعادتها من التنظيم المتشدّد، وممارستها تضييقات على سكّانها الذين يقول بعضهم إنّهم مستهدفون بعملية تغيير ديموغرافي على أساس طائفي، خصوصا وقد تمّ بالفعل تنفيذ مثل ذلك التغيير في منطقة جرف الصخر جنوبي العاصمة بغداد، والتي أخليت بشكل شبه كامل من سكّانها السنّة ومازالوا إلى اليوم ممنوعين من العودة إلى ديارهم التي استولت عليها الميليشيات وحوّلتها إلى مخازن للسلاح وورش لإعادة تركيب الصواريخ والطائرات المسيّرة التي يتمّ تهريب قطعها من إيران.

وتتجاوز الأخطاء في معالجة ملف تنظيم داعش في العراق ميادين القتال خلال الحرب لتمتد إلى ما بعدها وتشمل عملية المحاسبة القضائية التي شابتها خروفات جسيمة حادت بها عن هدف تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا والاقتصاص من المجرمين الحقيقيين.

وسبق للأمم المتحدة أن تحدّثت عن وجود إخلالات في محاكمة متّهمين بالانتماء لتنظيم داعش في العراق، واصفة محاكمات أجريت لعدد من هؤلاء بالمتسرعة وغير المستوفية  للمعايير الدولية.

واعتبرت أغنيس كالامارد الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنه يتعيّن على العراق ضمان مثول قياديي تنظيم داعش أمام العدالة بشأن ما تردّد عن ارتكابهم جرائم حرب وإبادة بحق مدنيين وليس لمجرد اتهامات عامّة بالانتماء إلى جماعة إرهابية.

وكمثال على الإخلالات ذكرت المقرّرة الأممية أن محكمة في بغداد قضت بإعدام أربعة رجال وهما عراقيان وسوريان في اتهامات بالانتماء إلى منظمة إرهابية محظورة هي تنظيم داعش. ولم تكشف عن هويات هؤلاء لكنها وصفتهم في بيان بأنهم “أربعة من كبار المنتسبين لقيادة التنظيم”. وأضافت “كان حريّا بالمحاكمة أن تلقي الضوء على داعش من الداخل وتنشئ سجلا قضائيا ضروريا بجرائمه ضد الناس”.

وترى كالامارد أنّه يتعيّن على حكومة العراق اتخاذ الخطوات المناسبة لمقاضاة من ارتكبوا الجرائم ضد الشعب العراقي ومن ذلك مزاعم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.

وتقول “على الأقل كان حريّا بالمدعين العراقيين توجيه تهم إضافية بموجب قانون العقوبات العراقي مثل تهم القتل أو التعذيب للمدّعى عليهم بغرض المحاسبة”، مذكّرة بأن المعايير الدولية التي تضمن إجراء محاكمة عادلة لم يتم الوفاء بها في الإجراءات الجنائية المتسرعة والتي حرم خلالها الرجال من الاتصال بمحامين، مستغربة عدم مشاركة ضحايا داعش أو عائلاتهم وتقديم شهاداتهم الضرورية في المحاكمات التي جرت لمتّهمين بالانتماء للتنظيم.

وشدّدت المقرّرة التي سبق أن قدّمت توصيات بشأن المساءلة الجنائية بعد زيارة قامت بها للعراق على أنّ الحق في معرفة حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هو حق أصيل، وأنّه “لا يمكن تحقيق العدالة في الخفاء”.

وأعلن التنظيم المتشدّد الذي سيطر على مساحات كبيرة من العراق وسوريا عام 2014 قيام ما سماه “دولة الخلافة” وأشاع الرعب بقطع الرؤوس علنا والاسترقاق الجنسي للنساء والفتيات بما في ذلك نساء الطائفة الإيزيدية، قبل أن ينهزم في حرب ضروس شارك فيها إلى جانب القوات العراقية والكردية والميليشيات الشيعية تحالف دولي من أكثر من ستين دولة بقيادة الولايات المتّحدة.

وفقد التنظيم سيطرته على الأراضي التي أعلن عليها “خلافته” الإسلامية، لكنّه لا يزال بعد أكثر من أربع سنوات على هزيمته العسكرية يحتفظ بخلايا نائمة في أنحاء متفرّقة من سوريا والعراق يستخدمها في عمليات تفجير وهجمات خاطفة يوقع خلالها خسائر في صفوف المدنيين والعسكريين.

ويقول المتخصّصون في شؤون الجماعات الدينية المتشدّدة إنّ الأخطاء والتجاوزات الجسيمة التي مورست أثناء الحرب على التنظيم ويعدّها، وخصوصا منها ما اكتسى بطابع طائفي، كانت بمثابة خدمة للتنظيم للاحتفاظ بحدّ أدنى من قواه ومحاولة تدعيمها باستقطاب أتباع له من صفوف الناقمين والمتضرّرين من الممارسات الانتقامية والطائفية.