لماذا تفشل خيارات السلام في اليمن؟

محاولة الإجابة على السؤال الصعب حول مآلات الحالة اليمنية وإمكانية تحقيق اختراق في مسار السلام وانتهاء الحرب التي تعصف بالبلاد منذ سبع سنوات تقريبا، أمر يحتاج للعودة قليلا إلى تفحّص خلفيات الصراع اليمني وقراءة التحولات السياسية والثقافية التي شهدها اليمن على الأقل عبر تاريخه السياسي المعاصر الذي ظل محكوما بحالة معقدة من التوازنات الدقيقة التي كرّست مشهدا جامدا ومعيقا للتحولات، لكنه مانع للانزلاق نحو دوامة عنف دامية أو ما يمكن أن نسمّيها حربا أهلية بالمعنى الحرفي، عدا ما تطلبته ضرورات الانتقال السياسي من “عنف” في بعض المراحل أو متطلبات التبديل في مركز القيادة الذي كان لا يخلّ في الغالب بحالة التوازن الدقيقة بين القبيلة والسلطة العسكرية والمؤسسة الدينية أو من يمثلها.

وقد برزت حالة التناغم تلك في شمال اليمن في أوضح وأنصع صورها خلال فترة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح الذي جعل من نفسه قاسما مشتركا لكل مراكز القوى التقليدية التي نشأت على أنقاض الحكم الإمامي الفردي الذي أطيح به في العام 1962 بعد سلسلة طويلة من الصراعات داخل بنيته أعادت الحياة جزئيا إلى دور القبيلة وضخّت دماء التمرّد في عروق عدد من الضباط الشباب الذين تصدروا مشهد الثورة الشعبية، وشكلوا في ما بعد الضلع الثالث في مثلث السلطة التقليدية.

ويجمع الكثير من المتعمّقين في المشهد السياسي اليمني على أن سر قدرة الرئيس صالح على المحافظة لأكثر من ثلاثة عقود على موقعه في سابقة غير معهودة في تاريخ ما بعد ثورة سبتمبر 1962، ناتج عن موهبته الفذة في اللعب على أوتار مراكز القوى أو ما وصفها هو بالرقص على رؤوس الثعابين، حيث لم يمكث أول رئيس للجمهورية وهو عبدالله السلال أكثر من خمس سنوات، ليخلفه القاضي عبدالرحمن الأرياني في مدة رئاسة ناهزت السبعة أعوام قبل أن يطيح به انقلاب أبيض أتى بالرئيس عبدالرحمن الحمدي الذي حكم فترة تقارب الأربع سنوات فقط، قبل اغتياله وقدوم أحمد الغشمي الذي لم يكمل العام حيث تم اغتياله في حادث تفجير حقيبة مفخخة، ليخلفه رئيس مؤقت هو عبدالكريم العرشي لم يكمل الشهر في السلطة.

وفي جنوب اليمن كان الصراع السياسي أكثر حدة ووضوحا في ملامحه وخلفياته، حيث أخذ طابعا أيديولوجيا سياسيا امتزج في بعض المراحل بالصراع القبلي، وتعاقب أيضا عدد من الرؤساء سريعا على كرسي السلطة بدءا من قحطان الشعبي أول رئيس بعد الاستقلال، مكث ما يقارب العامين، ومات مقتولا، ليأتي بعده الرئيس سالم ربيع علي الذي مات معدوما بعد حوالي عشر سنوات في الحكم، تصدر بعدها الفصيل الأكثر يسارية في الحزب الاشتراكي اليمني بقيادة عبدالفتاح إسماعيل الذي غادر في خضم صراع بين أجنحة الحزب الاشتراكي بعد عشر سنوات كذلك، خلفه بعدها الرئيس علي ناصر محمد الذي ظل رئيسا لما يقارب ست سنوات قبل أن يخرج من دائرة السلطة في جنوب اليمن إثر الأحداث الدامية التي شهدها العام 1986 بين فصائل الحزب.

وبالتوقف أمام الفترات التي حكم فيها الرؤساء اليمن شمالا وجنوبا، نجد أن الرئيس اليمني علي عبدالله صالح استطاع أن يتجاوز القاعدة المعهودة في بلد وصف يوما بأن حكمه أصعب من امتطاء الليث، كما أن رحيله عن السلطة بعد ذلك جاء تقريبا لنفس السبب عندما أراد التخلص من أعباء التوازنات والتقاسم غير المعلن للسلطة – الثروة بين مراكز قوى شاركت في صعوده وجمعت بين سلطة القبيلة والدين وبقايا المؤسسة العسكرية القديمة التي لم يسعفه الوقت للتخلص منها وبناء مؤسسته العسكرية الخاصة به المتمثلة في الحرس الجمهوري.

وطوال التاريخ اليمني كانت فترات الاستقرار القصيرة والنسبية قائمة على نظام الأحلاف القبلية قديما، حيث كان النظام المستقر هو ذلك الذي يستطيع الحفاظ على مصالح زعماء القبائل الرئيسية، لكن هذا النظام سرعان ما يتداعى عندما يدبّ الخلاف بين تلك الأحلاف وهو الأمر الذي لا يزال يلقي بظلاله حتى اليوم على الحالة اليمنية، ولكن بطرق مختلفة وأكثر تعقيدا مع دخول العامل الديني والعقائدي في معضلة الصراع الأزلي في اليمن.

وقد انتهت تقريبا كل محاولات التغلب والاستحواذ في التاريخ اليمني القديم والحديث والمعاصر حيث لم ينجح أي قائد أو فصيل أو قبيلة في فرض واقع جديد على الجميع، وما حدث أحيانا هو نجاح بعض الحواة المهرة في الإمساك بثعابين المعادلة اليمنية، ولكن ليس لوقت طويل كما هو حال الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.

وعند محاولة تفكيك تعقيدات المشهد اليمني وقراءة مسارات الحرب والسلام ومآلاتها، يمكن القول إنه لا يبدو أن المعطيات التي تكونت خلال عشر سنوات تقريبا من سقوط نظام الرئيس علي عبدالله صالح وانهيار منظومة التوازنات التي نشأت خلال ثلاثة عقود من حكمه، قادرة على إنتاج حالة استقرار لا من خلال خلق توازنات وأحلاف جديدة ولا حتى عبر فرض سياسة أمر واقع وغلبة عسكرية كما يأمل الحوثيون على سبيل المثال.

وفي الواقع اليمني الراهن يتشابك العقائدي مع الجهوي والمناطقي في مشهد بالغ التعقيد لم يعرفه اليمن من قبل حتى في أشد فتراته حلكة، وهو ما يفسر تناثر أحجار رقعة الشطرنج اليمنية بطريقة يصعب إعادة ترتيبها أو تحقيق نصر أو الذهاب إلى سلام من خلالها.

والذي لا يعرف تفاصيل وخلفيات المشهد اليمني، لن يرى في الظاهر إلا اصطفافين على رقعة الصراع هما “الشرعية” من جهة والحوثيون من جهة أخرى، معتقدا أن جلوس الطرفين على طاولة حوار قد ينهي المشكلة، لكن الحقيقة أن الشرعية هي أطراف عدة يدبّ بداخلها الخلاف السياسي والحزبي والمناطقي والجهوي، والحوثيون ليسوا بأفضل حال حتى بعد تخلصهم من حليفهم القوي علي عبدالله صالح، فالحوثية كجماعة تخفي بداخلها بذور صراعات مؤجلة والمنطقة الجيوسياسية التي تسيطر عليها تضم في الحقيقة الكثير من المتناقضات والتعقيدات التي لا يمكن السيطرة عليها لوقت طويل وخصوصا ما يتعلق بالبعد المناطقي والسلالي والمذهبي الذي تكرسه سلوكيات الجماعة الحوثية في تلك المناطق بقصد أو بجهل منها.

وانطلاقا من القراءة المتأنية للمعطيات السياسية والخلفيات التاريخية والثقافية للحالة اليمنية، تبدو خطط السلام التي يتم الحديث عنها اليوم كإعطاء قرص مسكن لرجل يحتضر، لديه الكثير من الأطفال المتشاكسين، حيث لا يمكن الرهان على حياة الرجل بقدر الآمل في أن يتمكن أطفاله من صنع مستقبل جديد لأسرة أنهكها الفقر والمرض والصراعات. تلك هي حال اليمن!

 

مقالات الكاتب